الوفد
طارق تهامى
سعد والنحاس..ذكرى تنفع المناضلين!
< وكأنه موعد متفق عليه للرحيل والصعود إلى سماء رب العالمين، صعود الروح الطيبة والنفس المطمئنة إلى بارئها، ليسجل التاريخ يوم 23 أغسطس 1923 موعداً لرحيل سعد زغلول الزعيم الذى لم يتكرر فى تاريخ مصر الحديث، ويوم 23 أغسطس 1965 موعداً لوفاة مصطفى النحاس الزعيم الذى أحبه ربه فوضع محبته فى قلوب شعبه.
< الزعيمان سعدوالنحاس.. ناضلا سوياً..اعتقلا معاً.. تم نفيهما متشابكى الأيدى.. وعندما مات سعد أصاب الحزن قلب رفيقه النحاس.. الأول قضى نحبه..وظل الثانى ينتظر.. وعندما جاء نفس يوم رحيل سعد بعد مرور 38 عاماً، قال له النحاس أنا قادم إليك يارفيق النضال.
< الزعيم الأول سعد زغلول كان دليلاً للثوار وأباً روحياً لهم أو كما قال عنه غاندي: «سعد زغلول معلمي».. فقد كان سعد قائداً لحركة شعبية طاغية في مطلع عصر التنوير الذي فجرته الثورة وكان زعيماً متسامحاً مع الآخر..وراعياً رسمياً لمبدأ الوحدة الوطنية فكان دائماً هو «نازع فتيل الفتنة».. أبداً.. لم يكن سعد مجرد رجل اختاره الناس زعيماً.. ولكنه صانع ثورة منظمة تطلب الاستقلال.. وما كتبه المؤرخون عن ثورة 19 يؤكد أنها كانت تدار عبر أربع طبقات من القيادات القوية التي وضعت أمامها هدفاً واحداً اسمه الثورة.. وحققته.. مصطفي أمين قال في كتابه عن الثورة الأم إن سعد زغلول ترك ورقة كتب فيها «إذا اعتقلت الطبقة الأولي من قيادات الثورة تقوم الطبقة الثانية فإذا اعتقلت تقوم الثالثة وإذا اعتقلت تقوم الرابعة» وهذا يعني أن سعد زغلول كان يخشي من القضاء علي الثورة باعتقال قياداتها أو بنشر الفوضي التي قد لا تجد من يتحكم فيها فوضع أربع طبقات من القيادات.. وكان دور هذه الطبقات واضحاً عندما ثار الشعب للمرة الثانية عام 1921..
< كانت ثورة 19تنظر للأمام.. تريد الحفاظ علي نفسها.. وقد فعلتها.. فصنعت مرحلة ليبرالية أفرزت أبرز رواد الفكر والأدب والفن والاقتصاد والسياسة.. مرحلة شهدت نبوغ الفنان المثال مختار وأم كلثوم وعبدالوهاب ونجيب الريحاني.. وعرفت طه حسين والعقاد.. وشهدت اقتصاداً وطنياً من رموزه طلعت حرب وعبود باشا..فكان الوطن قائماً وقادراً رغم الاحتلال وتمكن من التقدم للأمام علمياً بجامعة أهلية شارك في فكرة تأسيسها سعد زغلول مع الإمام محمد عبده.. فقد كان سعد زغلول يعرف أن العلم هو الشعلة التي تنير الطريق للوطن وأن أبناءه المتعلمين هم ثروته الحقيقية.
< ولم يكن سعد زغلول رجلاً يائساً بل كان مناضلاً لا يتوقف عن الكفاح من أجل وطنه وحريته ولذلك لا نجد صحة للمقولة التي يرددها المصريون علي لسانه عندما قال: «مفيش فايدة» فهي دعوة لليأس لم يطلقها سعد من أجل العمل الوطني ولكنه كان يقصد أن حياته انتهت بعدما سيطر عليه المرض.. فقد اشتد عليه وبات علي يقين بأنه هالك لا محالة فقال لزوجته صفية زغلول وهي تحاول إعطاءه الدواء.. مفيش فايدة.. فتناقلها المصريون علي أنه يعني أن الإنجليز لن يخرجوا من مصر.
< أما مصطفى النحاس.. فهو الرجل الذى يحبه الناس لأنه صادق الكلمة شديد التمسك بالمبدأ.. العابد الزاهد.. لايترك المسجد لكنه يرفض الحكم باسم الدين..يرفض منطق الحصول على توكيل للحديث باسم الله. القصة الأشهر التى تعبر عن زهد وتصوف وتعبد النحاس هى الحكاية التى سردها سعد فخرى عبد النور سكرتير عام الوفد الأسبق.. ويقول فيها: بعد حركة يوليو 1952 تم تحديد تحركات الزعيم مصطفي النحاس.. وكان مسجد الإمام الحسين من الأماكن المسموح له بزيارتها أسبوعياً.. وكان سعد عبد النور نجل القيادي الوفدي البارز فخري عبد النور لا يري النحاس إلا كل يوم جمعة في مسجد الإمام الحسين بالقاهرة.. وفي إحدي المرات قال سعد عبد النور للنحاس: ياباشا أنا مسيحي.. مش معقول كل ما أحب أشوفك لازم تجبرني أدخل جامع الحسين! فرد عيه النحاس مازحاً: جري إيه ياسعد انت ماتعرفش إن مولانا الحسين كان وفدياً!
< هذه الحكاية هي مفتاح شخصية مصطفي النحاس باشا الذي قضي عمره يدافع عن الوطن وقضيته الوطنية من خلال الوفد الحزب العريق الذي عشقه مثل روحه مستعيناً بالله.. متمسكاً بثوابته التي لا تختلف عن ثوابت كل المصريين الذين كانوا يعملون نهاراً من أجل لقمة العيش ويناضلون ظهراً ضد الاحتلال ويزورون أولياء الله الصالحين ليلاً تبركاً بهم في مواجهة الظالمين والفاسدين ويمسكون بأيدي إخوانهم المصريين بغض النظر عن دينهم لصناعة عروة وثقي تحميهم من الطغيان والتشتت والانحدار.. كانت هكذا مصر وكان مثلها النحاس.. الذي كانت حياته مثل وفاته.. فقد عاش حياته زعيماً مناضلاً يقاوم الاحتلال ولا يسعي إلي الحكم.. بل كان الحكم هو الذي يأتي أمامه وتحت قدميه.. ومات - أيضاً - زعيماً يخرج الناس من بيوتهم ينحبون ويبكون رحيل الزعيم.. فقد كانت جنازة مصطفي النحاس هي الدليل الأهم والأكبر علي زعامته.. كانت مهيبة.. حاشدة.. في عز مجد جمال عبد الناصر الذي صدمته هذه الحشود التي خرجت لتشييع رجل كان يعتقد أن سيرته قد ماتت قبل وفاته بثلاثة عشر عاماً قضاها تحت الإقامة الجبرية.. وكانت الصدمة الكبري التي واجهها عبد الناصر هي الهتاف الرئيسي لمئات الآلاف الذين قالوا في الجنازة: «لا زعيم بعدك يا نحاس» فقد كان «ناصر» يغرس في نفوس الناس كل يوم أنه الزعيم الأوحد.. ولا زعيم غيره.. فظهر النحاس ليقول له: «لقد رحلت عن الدنيا.. ولا زعيم بعدي».
< كان رأي سعد زغلول في النحاس غريباً جداً.. فقد كان يسميه «سيد الناس» وقال عنه: «سريع الانفعال ولكنه لا يتغير بتغير الأحوال، وطني مخلص.. وهو فقير مفلس، ذكي غاية الذكاء... وفي كل الوفاء، وله في نفسي مكان خاص».
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف