محمد ابو الفضل
أمريكا تدعم «خطة بوتين» العربية
النجاحات التى حققتها روسيا على مستويات مختلفة، مكنت قيادتها من أن تتطلع للقيام بمزيد من الأدوار فى عدد من المناطق الملتهبة، بينها الشرق الأوسط، الذى يعد تاريخيا ساحة أساسية لاختبار النفوذ، والقدرة على ممارسة السيطرة، والإمساك بزمام بعض القضايا المحورية.
تزامن الزيارة التى يقوم بها الرئيس عبدالفتاح السيسى لموسكو حاليا، مع زيارة كل من الملك الأردنى عبدالله بن الحسين، وولى عهد أبوظبى محمد بن زايد، لم يأت مصادفة، فوجود هؤلاء القادة فى توقيت واحد له دلالات سياسية كبيرة، كما أن الحديث عن زيارة متوقعة لروسيا يقوم بها الملك سلمان بن عبدالعزيز، تضفى المزيد من المعانى العميقة، خاصة أن الزيارة التى قام بها الأمير محمد بن سلمان ولى ولى العهد السعودى الشهر الماضي، لا تزال أصداؤها السياسية والعسكرية مستمرة.
تحول موسكو إلى ما يشبه القبلة العربية جاء متسقا مع مجموعة من الاعتبارات السياسية، أهمها امتلاك روسيا رؤية محكمة يقودها الرئيس فلاديمير بوتين، تقوم على تبنى خطة للاقتراب من الأزمات المشتعلة فى المنطقة، وتأكيد القدرة على القيام بأدوار مهمة فيها، تتواءم مع الطموحات الروسية، وتستفيد من الأخطاء الأمريكية التى ظهرت فى التعامل مع عدد من القضايا العربية، وتوظف الارتباك الناجم عن سوء تقديرات واشنطن خلال الأعوام الماضية، والتى ظهرت ملامحها فى مصر والخليج وسوريا وليبيا واليمن.
كما أن القيادة الروسية أرادت مساندة بعض الدول العربية فى توثيق العلاقات معها، بعد أن استشعرت الأخيرة تخاذل الولايات المتحدة فى دعمها سياسيا، وانحيازها لكفة إيران، التى تسعى لتكريس وجودها، كقوة إقليمية مهيمنة على مفاتيح قضايا متعددة، ناهيك عن أن التقتير، والابتزاز أحيانا، الذى بدا واضحا فى عدد من التصرفات الأمريكية، دفع دولا عربية عدة إلى اللجوء لسياسة تنويع الخيارات والبدائل الدولية، ومحاولة تخفيف الاعتماد تماما على واشنطن، لأنها حليف غير موثوق به.
خطة روسيا، أو بوتين بمعنى أدق، تقوم على الانفتاح على جميع الأطراف المنخرطة فى أزمات المنطقة، وإجراء حوارات متنوعة مع القوى المتحكمة فى الحل والعقد، فهناك محادثات مع إيران والسعودية ومصر وتركيا وغيرها، وقوى محلية متصادمة فى أزمات ساخنة، وتقديم مقاربات متوازنة فى القضايا الأساسية، تتناسب مع دور الوسيط وتبتعد عن دور الوصي، بغرض كسب ثقة الجميع، ومحاولة تخفيف الانحيازات المسبقة.
لعل المعالم الأخيرة التى ظهرت على الموقف الروسى حيال الأزمة السورية، تنطوى على شيء من هذا القبيل، حيث انفتحت موسكو على عدد كبير من الأطراف المتصارعة، سياسية وعسكريا، بصورة مباشرة وغير مباشرة، وبدأت مرحلة التفكير خارج الصندوق، حيث قبلت بالتعاون والتنسيق مع قوى تعلم جيدا عمق علاقاتها مع جماعات متطرفة، ارتكبت أعمالا إرهابية فى سوريا وغيرها، أملا فى تمهيد الطريق أمام تسوية، تقود إلى حل سياسى حقيقي، ينهى المأساة السورية.
التحركات الروسية جاءت منسجمة مع رغبات وتطلعات عدد من القوى الدولية المؤثرة، بعد أن بدأت مصالحها تتضرر، بسبب دوامة العنف التى تدور فى المنطقة، وتصاعدت حدة التأثيرات السلبية للدرجة التى اقتربت من قلب وعقل بعض الجهات الغربية، خاصة أن الحسابات التى بنيت عليها ترتيبات ما بعد ثورات الربيع العربي، لم تحقق نتائج إيجابية كبيرة، وفتحت الباب لهواجس أمنية، سوف تكون لها انعكاسات خطيرة، إذا تواصل مسلسل الإرهاب على منواله، فى كل من سوريا والعراق وليبيا ومصر، ويمكن أن تلحق بها لبنان والأردن وغيرهما.
الرهانات التى تضعها دوائر كثيرة على روسيا لوضع حد لبعض الأزمات تبدو كبيرة، لكن المشكلة أن الأمنيات التى بنيت على دور موسكو فاقت كل التوقعات ووصلت إلى حد الأحلام، فهناك من اعتبرها عودة لأيام الاتحاد السوفيتى السابق بكل ما تحمله من أفكار، وهناك من أخذته العزة وبدأ يروج لاستقطابات دولية جديدة، والإيحاء بأن أجواء الحرب الباردة فى القرن العشرين، بدأت تطل برأسها فى القرن الحادى والعشرين، وفريق ذهب فى أطماعه إلى درجة ترديد نغمة سياسية تبشر بانتهاء العصر الأمريكى وبداية عصر الدب الروسي.
فهم ما يجرى من حولنا يتطلب مراعاة جملة من النقاط الجوهرية، قد تساعد فى تفسير جانب من المشهد الإقليمي، وتشابكاته الدولية، والحدود التى من المتوقع أن تصل إليها المقاربة الروسية الجديدة، أبرزها أن موسكو اليوم ليست التى عرفها العالم فى خمسينيات وستينيات القرن الماضي، حيث كانت تحكمها تقديرات أيديولوجية صارمة، أما الآن فهى محكومة برؤية تنطلق من فكرة الانفتاح على العالم، تقوم على قواعد ليبرالية، وبعيدة عن الرؤى الاشتراكية، وحسابات المصالح تلعب دورا فى كل كبيرة وصغيرة تتعلق بالتحركات الروسية.
ومن الخطأ التعامل مع الهجمة، السياسية، والعسكرية، والاقتصادية، التى تقوم بها موسكو باتجاه المنطقة العربية على أنها «بابا نويل» الذى يقدم الهدايا للأطفال حبا فى براءتهم، فكل الصفقات التى عقدت، أو سوف تعقد فى المستقبل تنطلق من اعتبارات دقيقة للغاية، معروف أولها من آخرها، وحجم المكاسب المادية، والمردودات المعنوية، والتنازلات ودوافعها.
النقطة الأهم، التى يحاول تصديرها البعض، حبا فى موسكو، أو غضبا من واشنطن، أن الولايات المتحدة فقدت كل أوراقها فى المنطقة، وفى سبيلها للانسحاب التدريجي، وأن التقدم الروسى نحو الشرق الأوسط يأتى على جثة أمريكا، أو رغما عن إرادتها، فى حين أن هذا التقدم جاء بقدر من التوافق، الصريح والضمني، بين الدولتين، فهل كان من الممكن أن تعقد واشنطن الصفقة النووية مع إيران، بعيدا عن روسيا؟ وهل يمكن تسوية الأزمة السورية مثلا دون موافقة موسكو؟!.
بالطبع لا، كما أن الفترة المقبلة متوقع أن تشهد حلولا صعبة لعدد من الأزمات الإقليمية، يصعب تمريرها وسط وجود فيتو روسى فى مجلس الأمن، وفى ظل المواقف العدائية لتصرفات الولايات المتحدة سيكون من المستحيل أن تواصل أدوارها التقليدية، لذلك لابد من صوت مقبول ومسموع، يرعى التسويات، ويقبل الصفقات، ولن تجد الكثير من الأطراف أفضل من العراب الروسى فى الوقت الراهن.