في زمن ما.. كان هناك من يوزع صكوك الغفران علي الناس.. ومن يحصل علي صك يتأكد أن الله قد غفر له ذنوبه وضمن له الجنة.. كانت هذه بالطبع صكوكا مزيفة.. تبيع الوهم.. وتستغل سذاجة البسطاء الذين تتعلق قلوبهم بحب الله.
وبعد أن اكتشف العالم هذه اللعبة القذرة.. وسخر منها وجعلها أضحوكة تاريخية.. تمر مئات السنين.. ثم يخرج علينا من يوزع صكوك الوطنية.. يمنح الوطنية لمن يشاء ويمنعها عمن يشاء.. كما لو كان هو مصدر هذه الوطنية وحامل أسرارها ومفاتيحها.. بينما هو في الحقيقة يبيع الوهم والزيف.. ويستغل سذاجة البسطاء الذين تتعلق قلوبهم بحب الوطن.. وتتسمر عيونهم علي شاشات التضليل وصفحات الكذب.
هؤلاء الذين يتحدثون باسم الوطن لا يختلفون حقيقة في شيء عمن سبقوهم ممن تحدثوا باسم الإله.. فاعترفوا بالإيمان لمن سار في ركبهم.. وكفروا من اختلف معهم وتوعدوه بعذاب الله.. هؤلاء يلعبون علي وتر الدين.. وهؤلاء يلعبون علي وتر الوطن.. هؤلاء سلاحهم التكفير لمن يختلف معهم.. وهؤلاء سلاحهم التخوين لمن يختلف معهم.
كلهم شركاء في جريمة لم يقف عندها القانون بعد.. هي جريمة تغييب الوعي العام وتضليل الناس وتشتيت عقولهم عن جادة الطريق.. وعندما نرتقي إلي درجة متقدمة في سلم الوعي سوف يمنع القانون خطاب التكفير وخطاب التخوين.. فهاتان الآفتان لا تثبتان إلا بأدلة قطعية الثبوت قطعية الدلالة.. ولا ينطق بأي منهما إلا قاض مشهود له بالاستقامة علي منصة العدالة.
ومن غريب الأحوال أن كثيراً ممن يتحدثون عن الوطنية في الصحف ووسائل الإعلام.. ويتبارون في توزيع صكوكها هم من أكثر الشخصيات المتهمة بالفساد والإفساد.. لا يسلم شرفهم الرفيع من الأذي.. وتشعر حين تسمع كلامهم المكرر بمناسبة وبدون مناسبة عن الوطن والوطنية أنهم أصحاب حاجة يطلبونها.. أو أنهم يسارعون للتغطية علي كوارثهم.. المهم أن حديث الوطنية لم يكن في الغالب لوجه الله.. بالضبط كما أن حديث التكفير لم يكن لوجه الله.. هي كلها محاولات مكشوفة لتحقيق مكاسب وتصفية حسابات مع المخالفين.
لقد عانينا كثيراً من لعبة الإقصاء السياسي والديني التي تجرع سمها كثيرون ممن ينتمون إلي أطياف مختلفة في فترات زمنية متفاوتة.. اليمينيون واليساريون والشيوعيون والناصريون والإسلاميون.. وكانت التجارب المريرة التي عشناها كفيلة بأن تقنع الجميع بأن من يعمل علي إقصاء غيره اليوم سوف يقصي غداً.. ومن يرم غيره بالخيانة الوطنية اليوم سوف يرمي بها غداً.. ومن يكفر غيره اليوم سوف يكفر غداً.. الأيام دول.. وكما تدين تدان.
الشعوب المتحضرة اجتهدت في حل مشاكلها وصراعاتها السياسية بالحوار وبالقانون.. ووضعت قواعد ثابتة للمنافسة السياسية.. خرجت بها من دائرة التكفير والتخوين.. فلا أحد يجرؤ علي أن يتكلم في المنافسة السياسية باسم الإله ولا أحد يجرؤ علي أن يتكلم باسم الوطن.. الله للجميع والوطن للجميع.. لا أحد يمتلك صكوك الغفران.. ولا أحد يمتلك صكوك الوطنية.
ولا عيب في أن نتعلم من تجارب غيرنا.. العيب كل العيب أن نظل نهدر أعمارنا في تكرار أخطائنا وأخطاء من سبقونا.