شعبان يوسف
الولد الشقي.. الشهير بمحمود السعدني
منذ أن صعد محمود السعدنى على منصة الكتابة، وهو يثير موضوعات صحفية ساخنة، ويسجل رحلات صعبة وسط معارك ضارية، مثلما فعل فى رحلة الجزائر عام 1957، فى أثناء كفاح الشعب الجزائرى ضد الاستعمار الفرنسى البغيض، وكانت لغته تتجه ناحية السرد القصصى، فأصدر مجموعته الأولى «السماء السوداء»، وكانت عبارة عن مختارات قصصية، نشرها فى بعض المجلات والصحف، ولكن البعض الآخر ما زال مدفونا فى بطون صحافة تلك الأيام، وبعدها أصدر مجموعة أخرى وهى «جنة رضوان»، وجاءت هذه المجموعة لترسخ اسم محمود السعدنى ككاتب للقصة، بجوار يوسف إدريس ومصطفى محمود وصلاح حافظ وعبد الله الطوخى وصالح مرسى وآخرين، إذ إن عقد الخمسينيات فى القرن الماضى، كان عصر القصة القصيرة بامتياز، ولم تكن مجلة سياسية أو فنية أو اجتماعية يخلو عددها الأسبوعى من قصة قصيرة لأحد الكتاب الشباب، أو المخضرمين، مثل مجلات «التحرير» و«آخر ساعة» و«حواء» و«الإذاعة» و«الجيل» وغيرها من المجلات، وكذلك الصحف مثل «الجمهورية» و«المساء» و«الأخبار» و«الشعب» و«القاهرة» وغيرها، هذا عدا المجلات الأدبية المتخصصة، حكومية مثل «الرسالة الجديدة»، أو مستقلة مثل «الأدب» و«الغد» و«كتابات مصرية».
وفى ظل هذا المناخ، نشأ محمود السعدنى ونشر قصصه الأولى التى سمحت له بالمرور بقوة إلى الحياة الأدبية والثقافية، وظل السعدنى يصدر المجموعات القصصية، والمسرحيات مثل مسرحية عربة بنايوتى ، أو الكتب التاريخية مثل مصر من تانى ، أو الكتب السياسية مثل أمريكا يا ويكا ، أو الكتب الفنية مثل المضحكون و ألحان من السماء ، ولكن تظل كتابة المذكرات هى الفرس الأكثر ربحًا ومقروئية وتعبيرا حادا عن حياته الاجتماعية والثقافية عموما، ومن هذه الكتابات الطريق إلى زمش ، وهو تجربته عن الفترة التى قضاها فى السجن بعد القبض عليه مع اليساريين عام 1959، وإن كان هذا الكتاب يحمل قدرا كبيرا من الخيال والمغالطات، أكثر مما يحمل الحقيقة، أو الصدق الكامل، فهو كتاب راح يعبّر عن سخط مبالغ فيه من السعدنى تجاه هذه المرحلة وناسها وأبطالها.
ولكن يظل كتاب مذكرات الولد الشقى ، هو أبرز ما كتبه السعدنى من مذكرات، وربما أكثرها متعة، وقد بدأ نشره فى شهر يناير عام 1963، وفى 7 فبراير التالى لهذا التاريخ، كان قد وصل إلى الحلقة الثالثة، وفيها يحكى مشاهد فى غاية الأسى الذى يمتزج بقدر كبير من السخرية، وكان السعدنى فى تلك المرحلة، قد أعلنت كتاباته عن موهبته الفارقة فى الأدب الساخر، وكان كذلك قد استقر فى مجلة صباح الخير ، وكان يكتب بشكل أسبوعى أكثر من مادة صحفية.
وفى هذا الكتاب مذكرات الولد الشقى ، الذى التصقت صفة الولد الشقى على السعدنى، حتى كادت تغطى على اسمه الحقيقى، يبدع فى رسم الشخصيات التى رافقته منذ طفولته الأولى أو الخضراء -إذا صح التعبير- مثل الشيخ محمد القريب من العمى، وشيخ الكتّاب، الذى أرسله إليه والده، وكان هذا الشيخ شديد القسوة، ويحكى السعدنى عن أنه كان ذات صباح، قد تقلّبت عليه بطنه، ولم يستطع أن يفرغ حاجته إلا فى قلب المكان الذى يلقى فيه الشيخ دروسه لهم، وعندما دخل الشيخ، وقال: فيه ريحة كلب ميت ، وراح يعيث بيديه فى المكان، حتى اصطدمت يداه بهذه المادة الطرية ذات الرائحة العفنة، هنا راح يقول لأطفال الكتّاب: من الذى فعل هذه الفعلة؟ ، وعندما لم يردّ أحد بالإيجاب، قال لهم: الذى سيعترف سوف أسامحه ، فرفع محمود إصبعه، وهنا راحت عصا الشيخ تتكلم بشراسة غير عادية، وساعتها خرج الطفل محمود من الكتّاب كارها له، وللشيخ، وللصدق، وقرر أن لا يكون صادقا على الإطلاق كما كتب.
وبعد ذلك كان الشيخ عبد العال، والذى لم يكن أقل شراسة من الشيخ محمد، وبعد ذلك دخل المدرسة عام 1935، وعندما مات الملك فؤاد، ويقول السعدنى إنه لم يكن يعرف من هو الملك فؤاد، وراح الناظر يشحن الأطفال فى سيارات للوقوف على الرصيف لتوديع نعش الملك الذى مات، ولم تكن مدرسته فقط التى فعلت ذلك، ولكن كانت كل المدارس خرجت لتوديع جثمان الملك، وكانت مدرسة محمد على تهتف بشعارات معينة، وكانت مدرسة الجيزة التى ينتمى إليها السعدنى يزداد حماسها، فيهتف الأطفال بهتافات ليست لها علاقة بالحدث، وتصادف أن كان الهتاف الذى يهتفون به العبيط أهه.. العبيط أهه ، يرتفع فى أثناء مرور النعش أمام الأطفال، وبالطبع تدافعت الحشود التى كانت على الرصيف لتدفع الأطفال إلى الشارع، ثم تدفعها حشود أخرى إلى الرصيف، وتحدث فوضى ما فى الاصطفاف، وينال بعدها السعدنى علقة ساخنة فى اليوم الثانى.
ومن أطرف ما جاء فى الكتاب، هو الوصف الذى كان يصف به السعدنى والدته المتسلطة، والساخطة، والحكاءة فى الوقت ذاته، وكان والده يحضر الجريدة الرسمية، ويجلس إليها ليقرأ معها الوفيات، وكلما نطق باسم واحد من المتوفين، تقول له بأنها تعرفه وتعرف عائلته التى تنتمى إلى محافظة المنوفية، وتظل تسترسل فى الحكى إلى وقت يصل إلى الساعة، وعندما يقول لها الوالد إن المتوفى ليس من المنوفية، فتقول له بأن هذه العائلة لها فروع وامتدادات فى أماكن عديدة مثل الشرقية والإسماعيلية وهكذا، فيقاطعها بقولها إن الميت الذى ينتمى إلى عائلة أبو مرزوق ، من غزة، فتقول له بأن غزة فى المنوفية، فيقول لها: إن غزة فى فلسطين ، وهكذا تظل الوالدة تسرد وتحكى وتتشعب ولا راد لقضائها على الإطلاق، وهو يعطى صورة شديدة السخرية عن هذه الأم الثرثارة بقوة.
وتميل حكايات السعدنى إلى التصوير الممتع، ففى إحدى الحكايات يسرد القصة التى كان يمرّ -فيها- بمزرعة حلاليف الخواجة اليونانى، وكان هو ورفيق المدرسة غزالى معه، قد قررا سرقة حلوفين والذهاب بهما إلى المدرسة بعد امتطائهما، وبالفعل يقول إنهما سرقا الحلوفين، وامتطى كل منهما حلوفه، ودخلا المدرسة، ولكنهما أخفيا الحلوفين فى غرفة الرسم، ولكن الخواجة يعرف بالحكاية، فيأتى إلى المدرسة، لينالا عقابهما القاسى.
وهكذا تستمر حكايات السعدنى الطريفة، والتى تعمل على تشخيص عادات وطرائف ونظم تحتاج إلى نوع متعدد من الدراسات الأدبية والسيكولوجية والتاريخية والسياسية كذلك، من غزارة ما جاء فى هذه المذكرات.
مذكرات الولد الشقي