التحرير
طارق الشناوى
فيلم الافتتاح «لا أحد يريد النوم»
صقيع البرد وهبات الجليد فى «برلين» تضاءلت كثيرًا أمام صقيع آخر وهو شُح الحضور الإعلامى العربى، خصوصا المرئى.

لو عقدت مقارنة مع مهرجان كان لاكتشفت أن لدينا خيار وفاقوس حتى فى التعامل مع الأحداث الثقافية المهمة، مهرجان كان نراه فى جانب منه أقرب إلى احتفالية مصرية، ومن ثَم عربية بامتياز بعيدًا عن الحضور الرسمى النادر فى الأفلام فأنا أتحدث هنا عن الحضور الإعلامى، دائما لدينا عدد ضخم جدا من الفضائيات وقبل اختراعها كان التليفزيون الأرضى يحرص ومنذ السبعينيات على الحضور وبكثرة مفرطة وبأكثر من مذيع وبرنامج مثل الإعلاميين الكبار سلمى الشماع ويوسف شريف رزق الله وسناء منصور، كما أن هناك دائما عددا من النجوم والنجمات من الممكن أن تضبط مواعيدهم على حضور كان ، وبعضهم يتفق للحصول على إجازة فى تلك الفترة الزمنية حتى يشارك فى الحضور.. فى آخر عامين ومع اقتراب شهر رمضان مع موعد كان بسبب أن السنة العربية القمرية تنقص سنويا 11 يوما فلقد زحف رمضان ليقترب فى كل عام أكثر وأكثر من شهر مايو وهو الموعد الدائم لمهرجان كان ، وهكذا فإن آخر عامين من كان لم نعد نرى هذا الزخم ولا نلمح النجوم يتقاطرون كما كان يحدث من قبل على المهرجان، لأن لديهم فى القاهرة مسلسلات وبرامج تنتظر رمضان، كانت بعض النجمات يتحملن نفقات سفر مصور فوتوغرافى ملاكى وأحيانا أيضا صحفى ملاكى لا من أجل تغطية الحدث العالمى، بل لمتابعة أخبارهن هناك ووصلت الذروة إلى أن نرى مثلًا الراقصة فيفى عبده وهى تتصدر الحضور وتصعد على سلالم مسرح لوميير وهى ترتدى الزى الفرعونى للفت الأنظار، وعندما سألوها ما علاقتك بـ كان أجابتهم أريد أن أشارك فى مهرجان بلادى تقصد القاهرة، وأوجه دعوة إلى نجوم العالم للحضور، وبالفعل كان أضخم وفد هو المصرى، وتحرص إدارة مهرجان القاهرة على اختلاف توجهاتها على الوجود هناك وعقد اللقاءات لشراء حق عرض الأفلام من شركات التوزيع، بل ودائما ما كان يقام على هامش المهرجان مؤتمر صحفى وحفل غداء لإعلان موعد بدء الدورة الجديد، وكثير من الأفلام المهمة التى نشاهدها عادة فى القاهرة نكتشف أنها أولًا عُرضت فى كان وجرى العُرف أيضا على أن لدينا جناحا رسميا تشارك فيه غرفة صناعة السينما وأكثر من مندوب للمهرجان موجود فى جنباته، وفى التوقيت الذى تكثر فيه شائعات التغيير والبحث عن رئيس جديد، يصبح السفر إلى كان هو الوسيلة المضمونة للترشح لمقعد الرئيس، قارن ما يجرى فى برلين، عدد أقل من الصحفيين والنقاد لم أعثر حتى كتابة هذه السطور على كاميرا تابعة للتليفزيون المصرى الرسمى أو الخاص، رغم أنه كل عام حتى مع زيادة معدلات التقشف وتقليل الإمكانات كانت الدولة رسميًّا تحرص على الوجود فى كان ، حتى بعد ثورة 25 يناير التى صاحبها تدهور فى الأوضاع الاقتصادية فى ماسبيرو . الشغف الرسمى فى برلين أقل بكثير ورصيدنا أيضا على المستوى السينمائى قليل جدا بالقياس إلى كان . إنها من وجهة نظرى لا نزال نقف على شاطئ مهرجان كان وبعد أن ينتهى التشابك الزمنى بين كان ومهرجان رمضان سوف يعود الزحام مجددا على شاطئ الريفييرا ، ويبقى السؤال هل يستفيد نجومنا من الحضور أم أن الأمر هو مجرد وجود فضائى وصحفى مضمون بنسبة كبيرة؟ ستكتشف أن الثانية أقرب الإجابات إلى الصحة.

■ ■ ■

بالأمس كان موعدنا مع فيلم الافتتاح لا أحد يريد الليل للمخرجة إيزابيا كواكسيت بطولة جولييت بينوش ، ما هو الليل الذى لا نريده أنه مرادف الموت، حيث الصقيع والثلوج تشكل العدو الأول للإنسان، فى تلك المنطقة من القطب الشمالى حيث تجرى أحداث الفيلم وفى الليل نحتاج إلى زيادة معدلات الطاقة لمقاومة البرد، الفيلم يضع دائما علاقة تصادمية بين الشكل والمضمون هذه الثلوج البيضاء نراها فى اللقطات الأولى وقد جرحت بعد أن لطخت بدماء، دُب تم قتله، الحياة البدائية كما تبدو على السطح ولكن هناك رقيا فى المشاعر عندما يطلق القناص النار على دب فُتنزف الدماء ونرى الشريط الأحمر الساخن يشكل ملامح الصورة على لون الثلوج الأبيض تتبدل أحوال الطبيعة، التى نتتبع قسوتها، والحاجة الدائمة إلى الدفء وشح الطعام، حيث تجرى الأحداث فى مطلع القرن العشرين فى جرين لاند . إنه مغامر يذهب إلى هناك ولا نراه، لكنه الفاعل والمحرك الرئيسى للأحداث، والقصة لها أيضا بُعدها الواقعى التوثيقى وهذا ما تعلنه تترات النهاية، حيث إن زوجته تفتقده بعد كل سنوات الغياب وتبدأ فى اقتفاء أثره وهناك نكتشف أنه أحب امرأة من هذا العالم البدائى، وعلى هذا نجد العلاقة الثلاثية تفرض نفسها، الثالوث الدرامى الأشهر زوج وزوجة وعشيقة لا نرى فعليا الزوج ولكننا نتابعه معهم، الحياة الثلجية قبل مئة عام ويزيد حيث تجرى الأحداث تظل عالما مختلفا بالنسبة لنا لا ندركه ولا نعرف تماما تفاصيله، الفتاة البدائية تقدم لنا طقوسه حيث إنك لا يمكن أن تعيش منفردا، هناك دائما احتياج إلى وجود الإنسان فى معركة الدفء، من أجله يفعل أى شىء وكل شىء، وهكذا مثلا نرى أن البطلة لكى تحيا يستعان ببعض شعرها ليتحول إلى وقود فى المدفأة. رحلة العداوة مع الزمن تُصبح هى بداية الصداقة بين المرأتين وبينهما طفل أنجبته العشيقة ليصبح شاهدًا على الحب، تقول الفتاة البدائية فى حوارها نعم أنها لا تعرف الكثير من الكلمات الإنجليزية التى تتحدث بها بينوش ، ولكنها تستطيع أن تقرأ العيون عندما تعجز الشفاه، كل شىء إلى الصراع من أجل الحياة حتى لوحة كتابة التاريخ التى حرصت عليها بينوش لتظل على تواصل مع العالم، هذه اللوحة الخشبية أمام قسوة الطبيعة واحتياجها إلى الدفء اضطرت لحرقها، ورغم الصقيع وجبال الثلج فكم كان الفيلم دافئا وأداء جولييت بينوش يرشحها للجائزة.

■ ■ ■

لا تزال التشابكات السياسية تحيط بالمهرجان مثلما تُشكل عادة ملامح الحياة السينمائية بكل تفاصيلها، الفيلم الإيرانى تاكسى الذى عُرض أمس وسأراه بعد قليل، مخرجه ممنوع من ممارسة المهنة بحكم المحكمة وهو وقيد الاعتقال داخل البلد لا يستطيع مغادرة إيران، إلا أن صوت السياسة لا يعلو على صوت الفن، لقد تم اختيار الفيلم للعرض الرسمى لأنه يستحق، جعفر مخرج كبير وحصل من قبل على دُب برلين الذهبى 2006 عن فيلم أوفسايد فهو يحتفى به سينمائيا أولًا، وهى رسالة فى الحقيقة دأبت المهرجانات الكبرى على تقديمها إلى العالم، وليس الأمر متوقفا فقط عند السينما الإيرانية، ولكن هذا الفيلم الصينى ذهب مع الرصاص الذى واجه مشكلات مع الرقابة هناك لما يتضمنه من نقد ويقال إن الرقابة لم تسمح بعرضه هنا كاملًا إلا بعد الحذف، وينتظر الجميع الفيلم لنعرف هل سنراه بعيدًا عن مقص الرقيب الصينى أم أن الرقابة تفرض سطوتها من بكين إلى برلين؟ ننتظر العرض لنعرف الإجابة!!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف