الوفد
م. حسين منصور
الطريق إلي الفاشية
مع نهايات عام 1935 استطاعت الحركة الشعبية والنضال الطويل الذي خاضه الوفد مع الجماهير دفاعاً عن الدستور وفي سبيل استعادته... كان انتصاراً كبيراً لنضال طويل خاضه مصطفي النحاس وجادت فيه جماهير بدمائها وأرواحها من أجل استعادة حقوقها في مواجهة الملك والسراي وتحالفه البائس مع الانجليز... في أعقاب تصريح هور في 11/1935 انفجرت ثورة الطلبة والشباب وكانت المطالبة بعودة دستور 23 وقد تحقق لها ما أرادت واستقال توفيق نسيم وشكل علي ماهر رئيس الديوان الملكي وزارة انتقالية لاجراء الانتخابات... وجاءت وفاة «فؤاد» الأول في 28/4/1936 لتوفر عليه عار مواجهة اكتساح الوفد للانتخابات.
< تألفت الجبهة الوطنية في ظل قرون الحرب الإيطالية- الحبشية وتداعيات الموقف العالمي المنذرة بحرب عالمية جديدة علي الأبواب ودخلت في المفاوضات مع الانجليز الأمر الذي انتهي إلي توقيع معاهدة 36... مات «فؤاد» وتشكل مجلس الوصاية لعدم بلوغ «فاروق» السن القانونية وبدأت مصر عهداً جديداً تملك سيادتها التشريعية والقانونية وأصبحت عضواً في عصبة الأمم واختفي «فؤاد» الذي قوض الحكم الدستوري عبر عقد ويزيد من الزمان والملك الصبي الغض لم يزل في بداياته... كان طبيعياً أن تمضي مصر نحو صناعة الاستقلال الكامل الخارجي والداخلي وتتجه نحو التمصير ونحو مواجهة الاختناقات الاقتصادية وازدات البطالة والتعليم وحقوق العمال...إلخ من أعمال بناء الدولة الحديثة.
< في أعقاب إبرام المعاهدة طرحت جريدة «السياسة» فدعت إلي قيام عهد جديد يعود به النظام البرلماني إلي صورته الطبيعية... أي ان الجريدة اعتبرت ما مضي من الحياة الدستورية كان شذوذاً عن النظام البرلماني ودعت المصريين إلي الاختيار بين النظام البرلماني الصحيح والنظام الفاشستي القائم!... وهكذا نبتت الفكرة الداعية لحل الأحزاب القائمة وإعادة البناء من جديد وبالطبع ظهرت دعاوي لحل الوفد باعتبار ان مهمته لتحقيق الاستقلال قد تمت وانتهي دوره وكذا ظهرت فكرة أن الأحزاب كان شقاقها طبقاً لخلافها حول الاستقلال والسيادة ولما كانت تلك المهمة قد تحققت فأولي بهم أن يندمجوا حزباً واحداً يعضد تماسك الأمة ويتقدم للمستقبل وكان أحمد ماهر من أنصار هذا الرأي... وقد رد الوفد علي تلك الآراء بأن مهمته لا تنتهي بتوقيع المعاهدة وإنما تنتهي بتنفيذها ووضعها موضع التطبيق... أما عن إعادة تكوين الأحزاب فالوفد حزب ووكيل الأمة وله برنامجه المعلن في مؤتمره العام المنعقد في 1935 وان كانت بعض الأحزاب وجودها يقوم علي الأفراد فهذا لا ينطبق علي الوفد... أما الاندماج في حزب واحد فهذا يترتب عليه تعديل النظام الحزبي وتأليف وزارة قومية وهذا أمر لا يوافق عليه الوفد منذ واقعة إسقاط الائتلاف الحكومي في 1928... وهكذا أدرك زعماء الأقلية ان اشتراكهم في المفاوضات لم يفد منه سوي الوفد واستتاب الأمور واستقرار الحكم في يده!
< تجمع كل أعداء الوفد ناحية القصر «علي ماهر- محمد محمود- إسماعيل صدقي- مجلس الوصاية- الشيخ المراغي» في مواجهة الوفد وعرقلته وفي هذا التجمع اصطفت القوي الفاشية الإخوان- مصر الفتاة وكان الجديد في الأمر انضمام جرائد وأقلام كان لها وجاهتها في زمن مضي.
< عندما حان ميعاد تولي الملك الصغير «فاروق» لسلطته دعا الأمير محمد علي الوصي علي العرش أن يتولي «فاروق» الملك في حفل ديني يقلده فيه شيخ الأزهر بسيف جده ويؤم الحاضرين في الصلاة... فرفض «النحاس» وصمم إلا أن يتم تنفيذ ما ورد بالدستور وهو أن يحلف اليمين الدستورية أمام البرلمان... وبالطبع ظاهر شيخ الأزهر «المراغي» دعوة الحفلة الدينية وخرجت حملة جائرة من صحف «البلاغ» و«روزاليوسف» تستنكر اعتداء «النحاس» علي حقوق الملك وتطرقت الحملة إلي إلقاء اتهامات علي مكرم عبيد سكرتير عام الوفد بشكل طائفي في أنه من منع إقامة الاحتفال... ومن المدهش أن نفس القصر دعا إلي فكرة الخلافة الإسلامية في عهد «فؤاد» وها هو يعيد طرحها ثانية مع قدوم الوافد الصغير... وها هو «العقاد» يكتب «ان الخطة التي سار عليها النحاس كانت مرسومة لغاية سيئة هدامة ما كان أجدر بالنحاس وزملائه المسلمين أن ينزلقوا إليها»... في إشارة إلي أثر القبط في سياسة الوفد! ثم يستمر هادراً فيقول بوضوح «كاذب منافق من يقول إن أحداً منعها غير مكرم عبيد».
< أما مصر الفتاة فقد ألقت بثقلها بجوار الملك وكتب فتحي رضوان متهكماً علي مكرم عبيد «وليم باشا يخشي علي الإسلام من الوثنية والوفد يمنع حفلا دينيا ويجيز حفلا راقصا».
وزحفت كتائب الإخوان إلي القصر يوم مباشرة الملك لسلطته الدستورية لتبايع الملك علي كتاب الله وسنة رسوله.
< كان علي ماهر هو الحاضنة المتسعة والمحفزة لكل حركات الفاشية... كانت خيوطه ممتدة مع «البنا» وكانت أصابعه المحركة لأحمد حسين ومصر الفتاة وكان مشاركاً فاعلاً في كل حكومات الانقلاب الدستوري وكان لا يري سوي نفسه وفي خدمة المعية الملكية وهذا أيضاً ما علمته الحوادث للشيخ «المراغي» شيخ الأزهر من استقالته أيام «فؤاد» فتعلم أن الركون للقصر أشهي وأبقي... فكانت دروس شهر رمضان التي اصطحب فيها الملك الصغير لتتابعه صحف «البلاغ» و«روزا» وتنشر صور الملك الصالح ثم ليشن «المراغي» هجومه علي الوفد فيتهم الحكومة انها غير راضية عما يلقيه من دروس دينية وأن «مكرم» يشكوه للسفير البريطاني الأمر الذي لم يكتف «مكرم» بنفيه بل أبلغ بشأنه النيابة العامة للتحقيق فيه... وبلغ الأمر مداه أن أصبح الخطباء في المساجد يتقولون علي الأقباط وأصبحت الأجواء الطائفية ملبدة حتي ان خطيب جامع «عمرو» في صلاة الجمعة اليتيمة أمام الملك يقول «ان مصر كانت بلاد الكفر والإلحاد حتي دخلها الإسلام» فرد «النحاس» وكان حاضراً للصلاة «ان المسيحية لم تكن ديانة كفر وإلحاد قط».
< تعددت الاستقالات التي تقدم بها «النقراشي» إبان حكومة 36 بسبب فصل «العقاد» وصولاً للاعتراض علي توليد الكهرباء من خزان أسوان وقد اعتبر سليمان غنام ان التهديد بالاستقالة في هيئة تقوم علي الأغلبية في الرأي هو تصويب مسدس إلي رأس الهيئة... وانتهي الأمر بإعادة تشكيل الوزارة وخروج «النقراشي» منها تصاعدت المسائل بين أنصار «النقراشي» والوفديين وطالب «النقراشي» بحل القمصان الزرقاء واحتدم الخلاف وانتهي الأمر بفصل «النقراشي» واعترض أحمد ماهر.
< الخلاف بين أحمد ماهر و«النقراشي» من جهة و«النحاس» من جهة أخري مر بمراحل بدأت من عدم اتفاقهم مع «النحاس» علي تأييد حكومة «نسيم»، ثم عند تشكيل الوزارة ودخولها في نزاع مع علي ماهر كانوا أقرب لعلي ماهر من «النحاس» وعند عودتهم من المفاوضات كانوا مساندين لفكرة دمج الأحزاب في حزب واحد ولما كان الوفد غير متفق علي حكومة الائتلاف فلم يوافق علي الفكرة... وفي كل هذا زاد التقارب بين «النقراشي» وأحمد ماهر من ناحية وعلي ماهر من ناحية أخري مما هيأ لفكرة أن يحدث تعديل وزاري عند مباشرة الملك لسلطاته ويتم استبدال «النحاس» بـ«ماهر» طبقاً للأغلبية البرلمانية الموجودة... وفي اجتماع الهيئة الوفدية شرح أحمد ماهر «انه يأخذ علي الوفد الإغداق علي العمال بما يشبه أعمال البلشفة واستجابة الوزارة لمطالب الطوائف ضعفاً وخضوعاً وغيرها مما أوجد مناخات معادية مع الملك وإذا كان الملك يوفر علينا التعب ويعطينا فرصة أخري فلم لا نقبل»... رفضت الهيئة ما طرحه «ماهر» واعتبرت كل من يخرج علي التضامن الوفدي فيشترك في وزارة أو يؤيد وزارة أخري غير وزارة الوفد بزعامة «النحاس» فهو منفصل.
< فلما شاء أحمد ماهر أن يأخذ النواب في صفه أبوا إلا أن يحافظوا علي وحدة الوفد في مواجهة دسائس القصر ورفضوا أن يكونوا مطية ولما جاء أمر إقالة «النحاس» منعه أحمد ماهر من التعقيب وأمر بوليس المجلس بإطفاء الأنوار... فكان قرار فصل «ماهر»... وحينما عين «فاروق» علي ماهر رئيساً للديوان الملكي رفض الوفد ولكنه كان ممزقاً بين القوي الفاشية وزعماء الأقلية التي تكيد له ومؤامرات القصر وانسلاخ «ماهر» و«النقراشي» المشين.
أما وقد انكشفت مؤامرة التواطؤ مع القصر التي رعاها علي ماهر والشيخ «المراغي» فكتب أحمد ماهر في بيانه «ان حزب الوفد قد انحل ولم يعد الوفد»... أما الجماهير فقد كانت مندفعة في الشارع في مواجهة إقالة حكومة الوفد وهي تصيح «النحاس أو الثورة» و«لا استقالة ولا إقالة» و«الدستور فوق الجميع».
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف