هل فقدنا كل جميل في حياتنا.. وهل التطور يقتل ويدمر وينهي الجمال في حياتنا؟
ذلك أنني أتجول ببصري في أنحاء مصر كلها.. فأجد مسميات لأماكن كانت رائعة الجمال في بلادنا.. ولكن التطور دمرها كلها!
<< مثلاً كانت هناك أحياء تحمل ما يعبر عنها.. وأقول كانت لأنها ماتت وبقيت الأسماء تذكرنا بكل ما ذهب، كان عندنا «حدائق القبة» أي منطقة كانت مشهورة بحدائقها.. فذهبت الحدائق.. بل وذهبت القبة نفسها.. إذ كان هذا الحي مشهوراً بحدائقه التي تحيط بمساكنه من قصور وفيلات، وربما ما بقي هو «قصر القبة» بجمال حدائقه.. وكان عندنا «حدائق شبرا» فذهبت الحدائق، وبقيت شبرا واحدة من أكثر مناطقنا كثافة في السكان.. تماماً كما كان عندنا حدائق حلوان وعين حلوان وكانت حلوان هي مشتي أثرياء مصر من أيام الدولة الأموية.. وحتي عصر أسرة محمد علي.. وكان كل بيت في حلوان تحيط به حديقة بها أشجار الجوافة- وياسلام علي جوافة حلوان زمان- وأيضاً أشجار المانجو وكذلك شجيرات العنب، ولكن ماتت حدائق حلوان وقامت مكانها العشوائيات والبيوت الخرسانية، رغم انها كانت من أفضل ضواحي مصر تخطيطاً.. كذلك انتهت غابات وأشجار حلوان.
<< وكما ماتت «حدائق حلوان» ماتت حلوان الحمامات.. وأيضاً ماتت عيون حلوان الكبريتية الشهيرة التي كانت تشفي كثيراً من الأمراض وياسلام علي رحلة إلي عيون حلوان الكبريتية والشرب من مياهها وغسل الجسم بمائها المعدنية.. حتي الإهمال ضرب الحديقة اليابانية الشهيرة التي أنشئت في ثلاثينيات القرن الماضي.. ولحق بها أول مركز للعلاج بالمياه الكبريتية وكانت له سمعة عالمية، هي كابريتاج حلوان!
<< وفقدت القاهرة أبوابها التاريخية مثل باب الخلق الذي هو في الأصل «باب الخرق» وباب اللوق، فما هو اللوق.. وأين ذهب الباب، حتي ميدان باب الحديد، انتهي عصر الباب الحديد.. كما سينتهي اسم ميدان رمسيس بعد أن نقلنا عنه تمثال الملك رمسيس الثاني تماماً كما انتهي مسمي ميدان نهضة مصر، بعد أن نقلنا تمثال نهضة مصر الذي أبدعه المثال محمود مختار.. وأيضاً انتهي كوبري الليمون، فلم يعد هناك لا الكوبري، الذي أقيم مكان قلعة بناها «بونابرت» للدفاع عن مداخل القاهرة تماماً كما انتهي سوق الليمون الذي كان يقام في هذه المنطقة كل صباح.
وبالمثل بقي اسم «الفجالة» وانتهت زراعة الفجل وتوابعه في هذه المنطقة التي كانت تمتد من باب الحديد إلي شاطئ الخليج المصري أي شارع بورسعيد الآن وكذلك ظل صامداً اسم «باب الشعرية» حتي بدون شعرية وإن بقي مسجد الشيخ «الشعراني» الذي كان يعشقه فناننا العظيم محمد عبدالوهاب.
<< كما بقي اسم وكالة البلح.. ولكن بدون بلح! وكانت هذه المنطقة تستقبل البلح الجاف من كل الصعيد- قبل شهر رمضان- لتسويقه في المحروسة قبيل الشهر الكريم، وتحول السوق من البلح إلي قطع غيار السيارات ثم إلي الملابس المستعملة.. إلي المستوردة الآن، أو بواقي التصدير.. وغير بعيد عن سوق البلح كنا نجد سوق الغلال أي الحبوب وهناك لافتة مازالت صامدة علي شارع ضيق يبدأ من خلف فندق هيلتون رمسيس ويصل إلي مبني التليفزيون في ماسبيرو ومكتوب عليها اسم «شارع سوق الغلال.. أو شارع ساحل الغلال وكانت هذه المنطقة تابعة لبلدية القاهرة ثم استخدمت جراجاً لعربات ترام القاهرة ومخازن لمهمات البلدية.. حتي بغال البلدية التي كانت تستخدم في كنس شوارع القاهرة ورشها بالمياه»!
<< ونفس الموقف نجده في شارع الليمون والزيتون، آخر شارع المعز لدين الله قرب باب الفتوح.. إذ احتله باعة الثوم والبصل بالقرب من مقبرة حسن الذوق تحت أبواب هذه المنطقة.. كما انتهت حكاية الخانقاة التي حرفها العامة إلي «الخانكة» وبها أشهر مستشفي للأمراض النفسية في مصر وحتي العباسية أصبحت بلا «سرايا صفراء» وهي السرايا التي بناها والي مصر عباس حلمي الأول وتوسع فيها الخديو إسماعيل!
وكذلك أصبح ميدان سليمان باشا بلا تمثال هذا القائد الفرنسي الأصل الذي أعطي لمصر، أكثر مما أعطي لبلاده فرنسا.. وأصبح ميدان سوارس بلا سوارس التي كانت تحتكر تسيير عربات لنقل الركاب تجرهاس البغال ومحله الآن: ميدان مصطفي كامل.. وأيضاً شارع ولي العهد.. وكان آخر ولي للعهد في مصر هو الأمير محمد علي توفيق وإن كان الشارع حمل اسم الأمير فاروق عندما كان وليا لعهد والده الملك أحمد فؤاد الأول، وأيضاً شارع مصر والسودان.. إذ ذهب السودان وبقيت مصر وحدها.. كما في دمياط ميدان الكباس أصبح بلا كباس وميدان كوبري باب الحرس أصبح بلا كوبري.. بل وبلا أسوار وبلا باب يقف عليه الحراس لمنع دخول الغرباء.. والغزاة.. وكوبري «عباس» بدون «عباس»، وان ظل الناس يطلقون عليه اسمه القديم منذ أنشيء الكوبري الأول عام 1908، وحتي العتبة الخضراء بلا عتبة خضراء أو حتي زرقاء كما كان اسمها في البداية.. وميدان سفنكس بالعجوزة بلا سفنكس.. بل فيه أهوال من فوضي المرور.. حتي اننا نجد الآن ميدان الأوبرا.. بلا أوبرا.
<< وتعالوا نبكي علي كل هذه الأطلال!