سواء أسدل الستار على مسرحية الطالبة مريم، بعد ثبوت كذبها، أو أصر المؤلفون على استمرار عرض فصول أخري، وإدخال تعديلات جديدة على
السيناريو والحوار، ففى كل الأحوال هناك مجموعة مهمة من الحقائق كشفتها هذه المهزلة، وأكدت أن هناك قطاعا كبيرا، من المواطنين والمسئولين والسياسيين والإعلاميين، فقد صوابه تماما، واندفع وراء مزايدات رخيصة، جريا وراء أهداف خبيثة.
لم يراع المنتمون إلى هذا القطاع، حرمات الوطن الأساسية، ولا طبيعة المرحلة السياسية، وتعمد بعضهم الصعود إلى الهاوية، بسبب الخسة والجهل المطبق، والسعى وراء المصالح الشخصية، وتجاهلوا حجم الجريمة التى ارتكبوها، بفعل الانجرار وراء طالبة محبطة أو مريضة، وجدت ضالتها فى أضواء الإعلام التى سلطت عليها، كأنها تبحث عن غنيمة، ولم يتمعنوا فى سيول التصريحات التى صدرت عن الطالبة وفريقها، وما بها من تناقضات، كما أنهم تجنبوا الإنصات لصوت القانون، حتى عندما ثبت عدم صحة الادعاءات التى ساقتها الطالبة، وعندما أكدت الوقائع صواب موقف وزارة التعليم، تعمدوا الالتفاف عليها، وحشروا القضية بين شقي، طالبة بريئة ومظلومة، ووزارة عاجزة ومفترية.
القضية خطيرة، لأنها كانت دليلا جديدا على فقدان الثقة فى أجهزة الدولة، فمع أن وزارة التربية والتعليم استخدمت الوسائل القانونية والعلمية، وتصرفت بحكمة تحسد عليها، واستجابت للابتزاز أحيانا، غير أنها ما زالت متهمة فى نظر كثيرين، ومع أن الطالبة ومن لف لفها تصرفوا بحماقة كبيرة، إلا أن هناك جمهورا مازال متشبثا بتصديق ما تفوهوا به من اتهامات وافتراءات، ومصرا على رفض التوقف عند أكوام الأكاذيب، والبحث عن حيل لتجاوز الأدلة والوثائق والأسانيد.
هى أزمة تعكس الهوة بين المجتمع والدولة، فقد تمكنت الفتاة من أن تتحول إلى حالة تشغل الناس، وتجذب التعاطف إليها، وتكسب ود الكبير والصغير، لدرجة أعمت الجميع عن رؤية الشمس ساطعة، وكأن العقل الجمعى يرفض تصديق كل ما يخرج عن الحكومة، والتى بدلا من أن تقف وراء أحد وزرائها، استخدمت كمخلب قط للنيل منه، عندما تم تزوير خطاب باسمها، يفيد بقبول استقالة وزير التعليم، واستقبل المهندس إبراهيم محلب الطالبة وشقيقها ومحاميها، بعد وقت قصير من عقد الدكتور محب الرافعى وزير التعليم مؤتمرا صحفيا كشف فيه الحقيقة عارية.
مهما كانت الكلمات التى قالها رئيس الحكومة فى الغرفة المغلقة عليه وأسرة الفتاة، فقد منحهم نافذة أمل، ومنح المسرحية دماء جديدة، حيث جرى تسويق اللقاء، على أنه اعتراف ضمنى من الدولة بخطئها وكفاءة الطالبة، عزز حجة الأخيرة فى أنها تعرضت لظلم، وصل لحد تسويقه، باعتباره استهدافا دينيا، وعندما تلجأ أسرة الفتاة لمحام مسيحي، وتتلقى رسائل دعم وتأييد من مواطنين، فى الداخل والخارج، على أساس طائفي، يمكن القول إن هناك من يقف بالمرصاد لكى تأخذ القضية هذا الاتجاه البغيض، فى وقت بدأت فيه اللحمة بين المصريين تعود إلى سيرتها الأولي، إذا استثنينا المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين.
فى هذه القضية، قدمت بعض وسائل الإعلام واحدا من أسوأ عروضها، وبدت كأنها تبحث عن كرباج تلسع به الحكومة، التى تتعرض لانتقادات مستمرة، وظهر عدد من مقدمى البرامج فى صورة عشماوى الذى يريد سرعة تنفيذ حكم الإعدام فى الضحية، ليستعد للضحية التالية، فمهنته تفرض تنفيذ الأوامر بلا حوار، لأن النقاش يمكن أن يؤثر فيه ويردعه، على الأقل لأسباب إنسانية، لهذا لم يتمهل عدد كبير من الزملاء الإعلاميين، ليمنحوا أنفسهم ومعدى برامجهم فرصة للتروي، والتمحيص فى الرواية التى قدمتها وزارة التعليم، ومقارنتها بالروايات الساذجة التى حكتها الفتاة والمتعاطفون معها، فقد كان صوتهم وسوطهم وضيوفهم بانتظار الضحية التالية.
لذلك تحركت مشاعرهم فى اتجاه الطالبة، ولم تنبض قلوبهم بالحق نحو وزارة التعليم، وكان الإصرار واضحا لاستكمال مسلسل «الضحية والجلاد»، فهذا محام يهدد بتدويل قضية مريم، وذاك مواطن يصرخ بأنها تنطوى على «اضطهاد ديني»، ثم جاء ممثل كوميدى من بعيد يعلن على الملأ تكفله بتعليمها فى أعرق الجامعات، فى حين هناك ألف ألف مصرى أحق من مريم، وهكذا دخلت مريم بورصة المزايدات من أوسع أبوابها، دون أن يدرك هؤلاء أن هناك 38 حالة ادعاء تبديل أوراق إجابات فى العام الحالى فقط، ومثلها تقريبا العام الماضي، ولم يتحرك أحد للوقوف إلى جوارهم.وقد أثبت الزميل أحمد حافظ على موقع بوابة الأهرام، أنه منذ تسعة أعوام لم تضبط وزارة التعليم بجريمة من هذا النوع، وكل الحالات التى تم التحقيق فيها كانت الوزارة هى الضحية.
فى اعتقادى أن وزارة التربية والتعليم من الضرورى أن تسرع بوضع عقوبات صارمة لمنع تكرار هذه المسرحية البليدة، لأن التأييد الزائف الذى حصلت عليه مريم، كفيل بتشجيع عشرات آخرين، كما أن الغطاء الإعلامى الذى توافر لها، عن قصد أو بدونه، يمكن أن يفتح الباب أمام ظهور أكثر من مريم على الفضائيات فى مجالات مختلفة خلال الفترة المقبلة، طالما لا توجد ضوابط رادعة، لأمثالها ولكل من تطوع بالدفاع عنها بالباطل.
المثير أن التركيز على هذه القضية، جاء على حساب قضايا، محلية وخارجية، أشد أهمية، لو أخذ بعضها ربع المساحة الزمنية التى احتكرتها مريم فى عدد من الصحف والقنوات التليفزيونية، كان أكثر نفعا وجدوى للدولة، لكن يبدو هناك من يريد استمرار تسطيح المجتمع، وقطع الطريق على المحاولات الجارية للإصلاح، وترسيخ الانطباعات السلبية عن الجهاز الإدارى للدولة بأنه «مفيش فايدة»، وأن «المحسوبية مستمرة»، و«الفساد ينخر فى مؤسسات الدولة للأبد»، إلى آخر العبارات الرنانة التى يضمها القاموس المعروف، الذى يحرض على الإحباط، ويحض على الاستسلام، إذ يوجد بيننا فريق من أصحاب المصالح والمحبطين يسعى إلى إبقاء مصر داخل هذه الحلقة الجهنمية.