الوطن
جمال عبد الجواد
انها حقا بلد شهادات
بينما يجاهد وزير التخطيط من أجل تنفيذ قانون الخدمة المدنية كسبيل لتحسين جودة الأداء الحكومى، يبذل وزير التعليم العالى جهداً كبيراً لإضافة مزيد من الانحطاط للتعليم الجامعى. لن أتحدث عن الاستثناءات لقواعد التوزيع الجغرافى التى يريد وزير التعليم العالى تطبيقها لصالح بعض الفئات، ففى هذه الاستثناءات فساد وتمييز وطبقية صريحة لا تحتاج سوى إلى الإدانة الصريحة والتجريم دون أى حاجة لكتابة تحليلية. لكننى سأتحدث عن سياسة التوزيع الجغرافى للطلاب باعتبارها أحد مظاهر وأسباب الانحطاط الحادث فى جامعاتنا، وهى نفس السياسة التى يسعى وزير التعليم لإحكام حلقاتها بتطبيقها على عدد إضافى من الكليات مثل الاقتصاد والعلوم السياسية والإعلام، والتى لم تكن تخضع لقواعد التوزيع الجغرافى قبل ذلك.

تم إدخال مبدأ التوزيع الجغرافى للطلاب لنظامنا الجامعى منذ الثمانينات لأهداف ليس لها صلة بالتعليم الجامعى، وإنما لأسباب اقتصادية واجتماعية، بحيث يلتحق الطلاب بجامعات قريبة من منزل العائلة، فلا يضطر عدد كبير من الطلاب للاغتراب بعيداً عن أسرهم، ويتم الحد من الطلب على السكن الطلابى فى المدن الجامعية، ولا تجد الجامعات نفسها مضطرة لإنفاق المزيد من الأموال لإتاحة المزيد من فرص السكن الجامعى.

بعض هذه الاعتبارات له وجاهته، وبعضها الآخر ليس له أى وجاهة، لكنها جميعاً معدومة الصلة بالتعليم الجامعى. التعليم الجامعى هو امتياز يتاح للخاصة من الطلاب الذين تتجاوز قدراتهم وطموحاتهم المعرفية والذهنية مستوى الطالب المتوسط. ففيما يكتفى الأغلبية من الشباب بتعليم متوسط أو أقل من ذلك لينصرفوا إلى البحث عن الرزق، ينجح عدد قليل من الطلاب فى البرهنة على امتلاكهم ما يلزم من القدرات والمعارف لمواصلة التعليم فى المستوى الجامعى. الامتياز والتفوق هو القاعدة الأساسية فى التعليم الجامعى، ينطبق هذا على الطلاب الملتحقين بالجامعات، كما ينطبق على الجامعات نفسها. فكما يتفاوت الطلاب فى المعارف والمهارات وتتاح للأكثر تميزاً منهم الفرصة للالتحاق بالجامعات، فإن الجامعات أيضاً تتفاوت فى قدرتها على تقديم تعليم متميز، وإن توافر فيها جميعاً حد أدنى متعارف عليه من القدرة على تقديم تعليم يليق بصفة التعليم الجامعى.

التفاوت بين الجامعات أمر متعارف عليه فى كل بلاد العالم المحترمة، فالجامعة التى لديها مكتبات ومعامل متواكبة مع التقدم الحادث فى العالم لا تتساوى مع الجامعة التى لا يتوافر فيها سوى الحد الأدنى من المكتبات والمعامل. والجامعة التى تضم عدداً كبيراً من الأساتذة حملة درجات الدكتوراه لا تتساوى مع الجامعة التى تعتمد على حملة درجات علمية أقل للتدريس فيها. والجامعة التى تضم عدداً أكبر من الأساتذة الحاصلين على الجوائز العلمية المرموقة والذين ينشرون أبحاثهم فى أبرز الدوريات المتخصصة لا تتساوى مع الجامعة التى تضم أياً من هؤلاء، والتى يكتفى أساتذتها بنشر أبحاثهم فى دوريات محلية محدودة التميز.

فى أمريكا لا تتساوى جامعات مثل «هارفارد وبرنستون وكولومبيا وشيكاجو» بالآلاف من الجامعات المنتشرة فى أنحاء الولايات المتحدة. وفى إنجلترا تحتل جامعات مثل «أوكسفورد وكمبردج» مكانة بارزة إلى جانب العشرات من الجامعات الأخرى، وهكذا فى كل بلاد العالم المحترم. أما عندنا فقط فالجامعات كلها متساوية، والمهم هو الشهادة التى يحصل عليها الطالب فى نهاية سنوات التعليم الجامعى، أما محتوى التعليم الذى تقدمه الجامعات المختلفة فهذا أمر يقع خارج نطاق اختصاصات وزارة التعليم العالى.

الجامعات فى البلاد المحترمة تتنافس للحصول على خدمات أفضل الأساتذة، وتتنافس أيضاً من أجل الفوز بأفضل الطلاب. فلكل جامعة قواعد قبول الطلاب الخاصة بها، والتى تتناسب مع الأهداف التى تسعى لتحقيقها، ومع طبيعة الجمهور الذى تتوجه إليه. فالجامعة التى تسعى لموقع متقدم فى مجال الأبحاث العلمية المتطورة تضع قواعد لقبول الطلاب تختلف عن الجامعات التى تسعى لتخريج المهنيين من أطباء ومهندسين ومحاسبين، وتلك التى تسعى لتخريج المهنيين المؤهلين للحصول على الوظائف فى الشركات الكبرى والدولية تختلف عن تلك التى تؤهل خريجيها للعمل فى شركات محلية متوسطة أو صغيرة، والجامعات التى تسعى لتأهيل خريجيها للعمل فى الكونجرس أو البيت الأبيض تختلف عن الجامعات الأخرى التى تؤهل الخريجين للعمل فى الإدارات المحلية المنتشرة بطول أمريكا وعرضها.

تتنافس الجامعات المحترمة لاقتناص أفضل الطلاب بغض النظر عن خلفياتهم وجنسياتهم، فتجد بين طلاب الجامعات المحترمة خليطاً فريداً من الألوان والأجناس لا يجمعهم سوى مطابقتهم للمواصفات التى وضعتها الجامعة لطلابها. فقط فى جامعاتنا نجد التوزيع الجغرافى وقد أصبح شرطاً من شروط الالتحاق بالجامعة فى تناقض صريح مع قاعدة الامتياز التى يقوم عليها التعليم الجامعى. فبيروقراطية التعليم الجامعى فى بلادنا ترى أن جميع الكليات فى التخصص الواحد متساوية فى القيمة والجودة طالما أنها كانت جميعاً تمنح شهادات متساوية فى قيمتها القانونية. وكما أن الجامعات فى عرف بيروقراطية التعليم العالى عندنا متساوية، فإن الطلاب أيضاً متساوون ضمن قواعد التوزيع الجغرافى التحكمية، ولا يوجد سبب يجعل جامعة القاهرة العريقة تفضل طالباً من أسوان على طالب من سكان القاهرة. وفقاً لهذه القواعد الشاذة فإن طلاب أسوان لا يمكنهم الالتحاق سوى بجامعات أسوان وجنوب الوادى وسوهاج وأسيوط، أما طلاب أسيوط فاختياراتهم محصورة فى جامعات أسيوط وجنوب الوادى وسوهاج والمنيا، أما جامعة القاهرة الأكثر عراقة فالالتحاق بها مقصور على طلاب القاهرة والجيزة.

لا أطالب بإلغاء الاستثناءات التى يريد وزير التعليم تطبيقها بالمخالفة لقواعد التوزيع الجغرافى، ولا أطالب بالامتناع عن تطبيق قواعد التوزيع الجغرافى على كليات العلوم السياسية والإعلام، ولكنى أطالب بإلغاء مبدأ التوزيع الجغرافى كلية كخطوة أولى لإصلاح التعليم الجامعى وتحويله من ماكينة لطبع الشهادات إلى معمل لتفريخ العلماء والمهنيين.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف