الأهرام
جلال امين
ذكريات شخصية.. عن أم كلثوم
كنت فى صباى ومطلع شبابى مولعا أشد الولع بأغانى أم كلثوم. كان اسم أم كلثوم وقتها على كل لسان، ويعتبر ظهور أغنية جديدة لها حدثا يضارع فى أهميته الأحداث السياسية الكبيرة.
لا أذكر بالضبط متى بدأ هذا الولع من جانبي، ولكنى أذكر جيدا الأثر القوى الذى أحدثته فى نفسى أغنية «سلوا قلبى» ، إذ أخذت أغنيها لنفسى وارددها، وحفظت كلماتها ولحنها عن ظهر قلب. وعندما اشترى لى أبى كمانا قديما لأبدأ فى تعلم العزف عليه، علمت نفسى كيف أعزف مقاطع منها. لم يكن عزفى جيدا قط، بحيث يجذب اهتمام أى فرد فى العائلة أو خارجها، ولكن هذا لم يمنعنى من العزف لنفسي، ولابد أنى كنت أحصل على درجة كافية من السرور مما أفعل.

عندما استعيد هذه الذكرى فى ذهنى استغرب جدا كيف كانت أغنية كهذه تحظى بكل هذا الاعجاب والاهتمام من الناس فى ذلك الوقت: اللغة المستخدمة هى اللغة الفصحي، والكلمات صعبة، والمعانى عميقة، ومع ذلك كان الراديو ينقل إلينا هتاف وصياح المستمعين معبرين عن إعجاب حقيقى وليس مصطنعا.. ولم تكن هذه الظاهرة استثنائية، بل كانت معانى الأغنيات بصفة عامة راقية، واللغة المستخدمة فى التعبير عنها أرقى كثيرا من المستخدم الآن فى الأغانى أو حتى فى الصحف.

استمر اعجابى وغرامى بأغنيات أم كلثوم حتى سفرى للبعثة فى إنجلترا فى 1958، وفى السنوات الست التى قضيتها فى إنجلترا كدت أنسى تماما أى شيء له علاقة بالموسيقى العربية. كان من الصعب علينا نحن المقيمين بالخارج أن نعرف بالضبط ما ظهر من أغان جديدة فى مصر، فقد كانت محطات الإذاعة المصرية تصل إلينا بصعوبة بالغة ومشوشة وغير واضحة، حتى ليكاد يستحيل سماع نشرات الأخبار المصرية ناهيك عن الأغاني.

لم أكن أدرى عند عودتي، بل اكتشفت بالتدريج أن تلك السنة التى عدت فيها إلى مصر (1964) كانت هى فى الحقيقة بداية التحول فى المناخ السياسى برمته، وأن الثورة المصرية بدأت منذ ذلك الحين تشيخ وتهرم، حتى انتهت بهزيمة 1967 ثم وفاة عبدالناصر فى 1970. وقد أصابت هذه الشيخوخة وهذا الضعف، الموسيقى والأغانى المصرية أيضا، فإذا بها تدخل مرحلة من التدهور مازالت مستمرة حتى الآن، بعد مرور أكثر من أربعين عاما.

من الطريف أن نلاحظ اهتمام حكومة الثورة، بعد عدة نكسات، بإقناع أم كلثوم وعبدالوهاب بالاشتراك معا فى عمل فنى واحد، وهو ما بدا مستحيلا قبل ذلك. كان كل من أم كلثوم وعبدالوهاب حريصا بالطبع على تفرده وتميزه، ولكن حكومة الثورة رأت فى قيام عبدالوهاب بالتلحين لأم كلثوم ما يمكن أن يضيف إلى رصيد النظام لدى الناس، وقد يسهم فى التخفيف من الشعور بالفشل السياسي.

نجح النظام فى اقناعهما بالتعاون، فأنتجا أول أغنية مشتركة بينهما (أين عمري) فى 1964. وحققت بالطبع نجاحا جماهيريا ساحقا، ولكنها لم تحرك عواطفى مثلما كانت تحركها أغنية جديدة من تلحين السنباطي، كانت فيها أشياء مصطنعة مثلما أصبح النظام بأسره منذ ذلك الوقت.

>>>

اشتدت أزمة الثورة بهزيمة 1967، ولجأ النظام إلى عدة وسائل لمواجهة السخط الشعبى والاحباط، فتوافرت السلع فى الأسواق أكثر من ذى قبل، رغم الصعوبات الاقتصادية، وتسامحت الرقابة مع الأفلام الجنسية أكثر مما كانت تفعل قبل 1967. كما وجد النظام عونا لا بأس به فى اثارة شعور الناس بالتاريخ. فالعهد الذى كانت حكومة الثورة تسميه فى بدايتها «بالعهد البائد» بدأت الحكومة تجد فيه اشياء ناصعة يحسن بالناس تذكرها وتأملها، وكأن الأشياء الطيبة التى حدثت فى الماضي، كثورة 1919 مثلا، أو صمود وشجاعة سعد زغلول، يمكن أن تعزى الناس وتواسيهم فى مواجهة انتكاسات الحاضر، لم يكن مصادفة إذن أن تقوم الحكومة بدعم وتشجيع الفرق التى تقوم بعزف واحياء الموسيقى العربية الكلاسيكية. هكذا نشأت بدعم كبير من الدولة فرقة عبدالحليم نويرة للموسيقى العربية فى النصف الثانى من الستينيات، وانشئت قاعة جديدة على طريق الأهرام سميت قاعة سيد درويش، وأصبحت تقدم فيها بانتظام حفلات الموسيقى العربية التى لقيت ترحيبا وحماسا كبيرين من الجمهور، لأسباب لابد أن كانت من بينها الحالة السياسية السائدة حينئذ.

هكذا اكتشفت بسرور بالغ كم كانت جميلة تلك الأغانى القديمة التى كانت تثير فى نفوسنا منتهى السأم فى صبانا ومطلع شبابنا، أهى بهذا الجمال إذن أغنية «ابتسام الزهر يشبه للحبيب» لأم كلثوم، أو أغنية «امتى الزمان يسمح يا جميل» لعبدالوهاب؟ كيف غاب عنى هذا طوال هذا الوقت؟ بل اكتشفت لدهشتى الشديدة ألحانا بديعة أقدم من هذا وذاك غنتها أم كلثوم لملحن لم أسمع اسمه من قبل قط، وهو طبيب أسنان كان يهوى التلحين «أحمد صبرى النجريدى» فأثارت هذه الألحان فى نفسى مشاعر لا تختلف عما تبعثه فى نفسى بعض من أجمل مقطوعات باخ أو شوبان أو غيرهما من أقرب الموسيقيين الغربيين إلى قلبي.

>>>

ثم جاء التضخم الجامح فى منتصف السبعينيات، فقلب المجتمع المصرى رأسا على عقب، ودفع الناس دفعا للانشغال اما بتكوين المزيد من الثروات أو بتوفير لقمة العيش أو السكن. أدى التضخم أيضا إلى تسارع حركة تحرير المرأة المصرية لاضطرارها إلى الانضمام للرجل فى كسب العيش، ولزيادة تفضيل الرجال المرأة العاملة بالمقارنة بالمرأة القابعة فى المنزل دون عمل يدر الدخل، تضافرت كل هذه العوامل لإنتاج نوع جديد من الغناء والموسيقي، أصبحت الأغانى الجديدة أسرع وأكثر اعتمادا على الايقاع، وموسيقاها أقرب إلى الرقص منها إلى الغناء. ذلك أن المجتمع بأسره أصبح »مجتمعا راقصا«: الراقصات يرقصن فى شارع الهرم للسياح العرب، والممثلون فى المسرحيات الجديدة يرقصون بدورهم أمام الأثرياء العرب والأثرياء الجدد من المصريين، سواء كان النص المسرحى يحتوى على فقرة راقصة أو لا يحتوى عليها، كما أن التكالب على المكسب السريع جعل أشياء كثيرة أخرى تتسم »بالخلاعة« فى السياسة والاقتصاد والصحافة والإعلام والثقافة.. الخ

فى ظل هذا المناخ الجديد توفيت أم كلثوم. كان خبر وفاة أم كلثوم خبرا مذهلا حقا، وكأننا لم نكن نتصور أن يصيب الموت شخصا احتل جزءا أساسيا من حياتنا منذ وعينا على أى شيء على الاطلاق. وأصيبت الحكومة المصرية بدورها بالذهول، ولكنها أصيبت أيضا بخوف شديد من أن تعجز عن السيطرة على الناس الذين لابد أن يخرجوا إلى الشوارع ليعبروا عن حزنهم، إذ ربما تحول التعبير عن الحزن إلى تعبير أيضا عن السخط على ما فعلته الحكومة وما لم تفعله، فسمعنا أن الحكومة أجلت الإعلان عن الوفاة عدة ساعات، حتى تتخذ للأمر عدته، وتتمكن من نشر قوات الأمن فى كل مكان.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف