فاطمة ناعوت
الأوغاد لا يسمعون الموسيقى
“كلّما زارَ عصفورٌ شُرفتي
أتسلَّلُ
بهدوء
ثم أتفحَّصُ عينيه
علَّه يكونُ أنتْ.
لكنَّ الأوغادَ
لا يسمعونَ الموسيقى.”
[إهداء الديوان]
من بين كتبي الاثنين والعشرين، ربما هذا الكتاب الوحيد الذي صدر وأنا بعيدة عن الوطن الحبيب. شعورٌ مختلف. صحوتُ السابعة صباحًا في أحد نهارات كاليفورنيا، فيما يوازي الثالثة من عصر اليوم القاهري، لأطالع الأخبارَ في الصحف المصرية والعربية كعادتي، فصافحني هذا الخبرُ الطيب الذي صنع يومي: (دار «العين» تُصدر أحدثَ أعمال فاطمة ناعوت «الأوغاد لا يسمعون الموسيقى.)
ولكي أقطع المسافةَ بين مستقري الراهن في أقصى غرب الأرض، وبين وطني الحبيب في مركز الكوكب، وأمحو الأميالَ والمحيطاتِ التي تحول بين عيني وبين مصافحة شمس مصر الساطعة، ولكي أجبرَ التواقيتَ وفروقَ الساعات على التزامن والمحايثة مع ساعات القاهرة وتوقيتها، قررتُ أن أشارك فرحتي بصدور كتابي الجديد مع قارئاتي وقرّائي في «نصف الدنيا» الجميلة.
أنشر اليوم مقتطفات من الديوان، لكي أستأنس مع الأحبة القراء آراءهم حول ديواني الثامن، الذي كتبتُ قصائدَه على مدى السنوات الأربع الماضية.
***
كان يظنُّ البيتَ الصغيرَ
قصرًا،
وإصّيصَ الوردِ
حدائقَ فردايسَ،
والبيسكليتَ النحيلةَ
أُسطولاً ومواكبَ؛
….
فلمّا دخلَ الكوخَ الخشبيّ،
وأنصَتَ إلى فيروزْ
تحكي عن أطفالٍ يعدّونَ قروشَهم
من أجلِ شجرةِ الميلادْ،
سقَى معها الزَّهرَ،
وأحبَّها أكثرْ.
***
كان يراها نجمةً
تسكنُ العُلا
تملكُ شعاعًا وجواهرَ وأقواسَ قزحٍ؛
….
فلما أطعمته من يدِها
حِفنةَ مِلحٍ
وكِسرةً
من خُبزٍ ناشفْ؛
قطّرَ في صحنِها زيتَ زيتونْ،
وأحبَّها
أكثرْ.
***
قلبُ الأطفالِ
يُغنّي
فَرُحْتُ أُغنّي معهمْ
رغمَ العنبرِ مملوءٍ بالحسرةِ
رغمَ أنابيبِ المصْلِ الطولىَ
تخترقُ الرُسغَ الغَضَّ الراقدَ في وهنٍ
فوق سريرٍ أبيضَ
وشراشفَ
تصرخُ من فرطِ الحَزَنِ
ورغم الآباءِ الباكينَ
وراء زجاجِ المَخْبَرِ
والأطفالِ المسروقين من العُمْرِ
ورغمَ زهورٍ
تقفُ وراء البابْ
فوق توابيتَ ملّونةٍ فارغةٍ
تترقبُ أجسادًا لم تتعلمْ بعدُ
كيف العيْشُ بلا شكشكةِ الإبرِ
وشَفْطِ الدمِّ من الأوردةِ
وكيف الموتُ
رفيقٌ
بالأطفالْ.”
***
حينَ الأزمنةُ مُشَوّشةٌ
وخطوطُ الطولِ
تُمزّقُ الخرائطَ والمدنْ
يضمُّها إلى صوتِه البعيدْ
ويحكي لها عن الغابةِ المسحورة
عن الأميرةِ
التي ضاعتْ في الكهفِ نصفَ قرنٍ
والأميرِ الذي
يصيدُ الفراشاتْ
ليُصبِّرَها في كتابِه
ولا يلمَسُها
لكيلا يتكسرَ جناحاها
فيذوبُ اللونْ.
***
نعمْ أغارُ عليكَ
حتى لأفكرَ
أنا آخذَ عينيكَ معي
بعيدًا عن تلك الحسناواتْ،
وأقُصُّ أُذنيكَ
حتى لا تُنصِتا إلا لهمسي،
وأدسُّ قلبَك في مِنديلي
لكيلا ينبضَ إلا لي.
***
فستانُها الأرضيُّ،
الذي مزّقته رصاصاتٌ خرجت من نِبالِ صائدِ الأطفال؛
تتخاطفه العواقرُ،
اللواتي يُحلُمْنَ أن تأتي بطونُهنَ بالمريماتِ الغِّيْدِ.
بعد غَدٍ،
تأتي المريماتُ كثيراتٌ يملأن الأرضَ بهجةً وصدْحًا؛
بعدما وزّعتْ مريمُ المسافرةُ إلى السماءْ،
سنواتِ عمرِها المسروقِ،
على أعمارِهنْ.
***