أعترف بأننى كتبت قصته فى المقال الماضى مبتورة. أخذت منها ما تصورت أنه يقدم تجربة الرجل لأجيال لا تعرف عنه أى شىء، قلت لنفسي: من يذكر الطنطاوى الآن؟ ومن يعرف حكايته؟ ومن يرغب فى القراءة عنه؟ لكن تقديراتى كانت خاطئة لأنه ما إن نشر المقال حتى توالت الاتصالات عن الشيخ الطنطاوي. مما أكد لى أن الرجل يستحق وقفة. ربما استغرقت ما هو أكثر.
قالت لى الدكتورة مؤمنة كامل، أستاذة التحاليل بكلية طب جامعة القاهرة: إنها تعرف عائلة الطنطاوي. والعائلات التى صاهرتها فى الغربية. وأن ما كتبته عن الشيخ محمد عياد الطنطاوى أكد لها معنى كانت مترددة فى أن تؤمن به بشكل نهائي. ألا وهو أن ضحايا التاريخ أكثر من أن يحصيهم العد. وأن حالات عدم الإنصاف فى الحكم على الناس سواء فى قديم الزمان أو الآن وربما مستقبلاً كثيرة ومؤسفة ومحزنة بلا حدود. لم تكن حكاية الشيخ عياد الطنطاوى الأولى بالنسبة لها. وربما لن تكون الأخيرة.
قلت لها إنه فى النهاية لا يصح إلا الصحيح. وأن الإنصاف وإن بدا مستحيلاً فى بعض الأوقات فإننا نقدر نحن البشر أن نجعل منه أمرا ممكنا. بشرط أن نتصف ببعد النظر والقدرة على الاستماع للآخر. وتقليب الأمر على وجوه مختلفة. وأن نؤمن بمقولة محمود دياب الروائى والكاتب المسرحى المصرى المظلوم حيا وميتا. إن الظلال تكمن دائما فى الجانب الآخر. وكان هذا عنوان روايته البديعة التى تحولت لفيلم جميل. أضيف لمحمود دياب أن الأضواء قبل الظلال تكمن فى الجانب الآخر. وأن الاكتفاء بالتعامل مع جانب ما من أى قضية خطأ نمارسه كل يوم تقريبا.
ثم تلقيت اتصالا من الدكتور حسين الشافعي. وأعقب الاتصال بهمة ونشاط يحسد عليهما ومن النادر أن نجدهما فى سلوكنا وتصرفاتنا مطبوعات كثيرة. والدكتور حسين الشافعى يرأس الجمعية المصرية الروسية للثقافة والعلوم. ويعمل مستشارا لوكالة الفضاء الروسية للشرق الأوسط. ويشارك فى عدد من المشروعات الاستراتيجية لأوكرانيا وبيللا روسيا، وروسيا الاتحادية ببلادنا. وقد استغربت من أنى لم أقرأ اسمه فيما كتب عن المفاعل النووى المصرى فى الضبعة الذى كان مفترضا أن توقع وثائقه مع الجانب الروسى خلال زيارة الرئيس السيسى لموسكو. وإن كانت حكاية حسين الشافعى تستحق أن نتوقف أمامها فيما بعد. المهم الآن أن نستكمل ما جرى لأسرة الطنطاوى بعد رحيله عن الدنيا.
أعترف بأن قصة الشيخ عياد الطنطاوى كانت مبتورة. واستبعدت منها كثيرا من التفاصيل التى كنت أعرفها بسبب المساحة المتاحة. ولكن فما دام الرجل حياً فى وجداننا فلأكمل حكايته.
بعد وفاته تساءلت: وماذا عن أسرته التى كونها فى الغربة؟ فى 19 مايو 1850، ولدت زوجة الطنطاوى ولداً سموه «أحمد»، ولأن زوجته «أم حسن» توفيت قبله، توسل الطنطاوى فى 17 أكتوبر 1860 أن يقبلوا ابنه فى داخلية إحدى المدارس الوسطى على حساب الدولة الروسية، بسبب مرضه ووفاة زوجته. وبعد وفاة الطنطاوي، توسل عميد المدرسة الداخلية لدى أولى الأمر أن يبقى معاش الطنطاوى لابنه، وصار الوصى الرسمى على «أحمد» الأستاذ كسوفتش، الذى عرض سنة 1870 باسم أحمد على جامعة بطرسبرج شراء مجموعة مخطوطات الطنطاوي، وقد اشترتها المكتبة سنة 1871. استوطن أحمد الطنطاوى روسيا، وقدم فى 30 سبتمبر 1872. طلبا باعتباره تابعا عثمانيا، إلى إدارة الجامعة، لتعطيه سجل خدمة أبيه، ليقدمه للإدارة الروحانية المسيحية فى بطرسبرج لأداء القسم، ليستطيع الحصول على التبعية الروسية، وتوفى أحمد فى أواخر القرن التاسع عشر، ودفن فى جبانة المسلمين، حيث سبق دفن أمه وأبيه، وجبانة المسلمين كانت موجودة فى قرية فولكوف القريبة من بطرسبرج، ولكن الزمان محا آثار قبر أم حسن وأحمد، ولم يبق سوى قبر الشيخ الطنطاوي.
وفى 23 أبريل 1886، قدم الوصى سولفيوف طلبا إلى إدارة الجامعة، لكى يعطوه وثيقة عن الطنطاوى الابن، ليقدمها لمجلس الاشراف، لادخال حفيدة الطنطاوى «هيلانة» فى طبقة الأشراف، حتى يمكن تربيتها فى دار أيتام الأشراف. وهكذا نكتشف أن حفيدة الطنطاوى أصبحت مسيحية، ونفاجأ بضياع آثار أسرة من بلاد الأهرام الدافئة، فى أصقاع روسيا الباردة.
مات الطنطاوى ظلما واغترابا، ولكن الهم والإنكار يصر أن يطارده بعد رحيله، كما يحدث عادة للمظاليم، ولكنه كان ضيفا ثقيلا غير مرغوب فيه فى حياته. فى سنة 1940 كتبت سافيليف: «أن اسم الطنطاوى معلوم لدى كل من يدرس العربية. مع أنه لم يؤلف شيئاً». وكتب غويفوريف: «أن تدريس الشيخ الطنطاوي، لم يترك أى أثر فى روسيا، والدور الأساسى الذى لعبه كان فى الاستشراق الفنلندى».
أما الدكتور اغناطيوس كراتشوفسكي، مؤسس الاستشراق فى روسيا، فقد وضع يديه على قدر الطنطاوى ومأساته معا، فى كتابه الجميل الذى ألفه عنه، وتأليف هذا الكتاب حدث مهم لمن يعرف قدر الرجل، فى روسيا والعالم، والكتاب عنوانه: «حياة الشيخ محمد عياد الطنطاوى». تأليف: أغناطيوس كراتشكوفسكي، ترجمه إلى العربية: كلثوم عودة وراجع النص العربى وحققه وعلق عليه: عبد الحميد حسن ومحمد عبد الغنى حسن ونشره: المجلس الأعلى لرعاية الفنون والاداب والعلوم الاجتماعية سنة 1964، ثم أعاد المركز القومى للترجمة طباعته أخيرا. ولولا هذا الكتاب الفريد والمهم ما كان ممكنا كتابة هذا المقال عن الشيخ الطنطاوي.
يقول كراتشوفيسكى فى كتابه:
- «كان الطنطاوى معاصرا لأغلبية رجال النهضة الأوروبية البارزين فى القرن التاسع عشر، لكنه سار على خط غير الذى سار عليه معاصروه المشهورون، لقد بقى فى عزلة عن الحركة العامة، ولم يشترك فيها، أو يؤثر فى تطويرها، كان الطنطاوى ربيب الأزهر، حيث كانت التقاليد الكلامية ثابتة فى ذلك الحين، ولكن الطنطاوى كان بعيداً عن دائرة صحفيى ذلك العهد الذى تحلقوا منذ سنة 28 حول الجريدة العربية الأولي، وقد انضم الطهطاوى لهم، ويتساءل: ولا ندرى كيف يمكن أن نكيف حياة الطنطاوي، لو لم يرحل إلى روسيا وله من العمر ثلاثون سنة»؟!.
هل هناك ظلم يتعرض له إنسان أكثر من هذا؟