كانت المقالة السابقة عن أسطورة من أساطير الإسلام السياسى ألا وهى ما أطلقوا عليها «الفتوحات الإسلامية» وقد رفعتُ راية التحدى للعلماء، لا للعامة، أن يأتينى أحدهم بآية واحدة من القرآن تبيح للمسلمين غزو البلاد لنشر الإسلام، وتحديتهم أن يأتونى بآية واحدة تجيز أخذ الجزية من «أهل الكتاب»، وقلت بأعلى صوتى أسمعونى يا علماء الأمة آية عن جزية «أهل الكتاب» لا جزية «الذين أوتوا الكتاب» لأن هؤلاء غير أولئك، والآن أطرح عليهم سؤالاً عن الرق وملك اليمين، ما رأى الأزهر الشريف فيهما، وهل هما من التشريعات الإسلامية الدائمة أم أنهما يرتبطان بزمن ولى وانتهى ولم يكونا من تشريعات المستقبل ذات الديمومة.
الذى استقر عليه عقلى وقلبى أن كليهما كانت له ظروفه التاريخية، ولم يكن تشريعاً للمستقبل، لكن القدماء من الصحابة والتابعين استمروا عليهما ووسعوا من نطاقهما إلى أبعد مدى على ظن من أن الإسلام أباحهما بشكل مطلق، واستمر هذا الأمر قائماً إلى الآن، يتم تدريسه فى الجامعات الدينية، وتتبنى مفاهيمه الجماعات الإسلامية والسلفية والتكفيرية، حتى إننى طالعت فتوى صادرة من الأزهر كان السؤال فيها هو: «يقول البعض إن القرآن ليس فيه ما يبيح الرّق، والسنة النبوية لم يكن فيها ما يبيح الرّق، وأنّه لو استرق محمد (صلى الله عليه وسلم) وأنشأ رقّاً فى حرب أو غير حرب لاتُّخذ عمله سنة باقية، وما جاز لأحد أن يُلغى الرّق من بعده، فهل هذا الكلام صحيح؟».
وجاءت إجابة لجنة الفتوى بالأزهر على هذا السؤال كالآتى: «الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد: فإنكار وجود الرق جهلٌ واضح بالكتاب والسنة، ومنشأ هذا القول هو الفرار من التهم الباطلة التى يلصقها الكفار وأذنابهم بالإسلام، وليس الإسلام موضوعاً فى قفص الاتهام حتى ندافع عنه بإنكار الثابت ثبوتاً قطعياً، ولو تأملتَ كتاب العتق فى كتب الفقه لعرفت مدى عناية الإسلام بالرقيق عنايةً يتمنى معها كثيرٌ من الأحرار فى زماننا أن لو كانوا رقيقاً فى عصور الإسلام الزاهرة، ولسنا بصدد تقرير هذا المعنى الآن إنما نحب أن نبين أن دلائل مشروعية الرق كثيرة كتاباً وسنةً، واتفق على جوازه المسلمون عبر العصور».
الرق الذى كان فى العصور الأولى جنة وارفة لدرجة أن الأزهر يرى أن الأحرار فى زماننا يتمنون أن لو كانوا أرقاء فى عصور الإسلام الأولى! لم يقرأ الأزهر وشيوخه شعر العبد عنترة بن شداد الذى قال: «لا تسقنى ماء الحياة بذلة بل فاسقنى بالعز كأس الحنظل».. الرق رقٌ ولو كان فى قصر من ذهب، والحر حرٌ ولو كان فى عش من خشب، ولكن هذا هو الذى وصل إلينا، الرق مباح، وملك اليمين يجوز أن نستمتع بهن، ولتذهب حريات الناس إلى الجحيم، ولتختفى من كتب التاريخ مقولة ابن الخطاب لعمرو بن العاص: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً»، فأصحاب ملك اليمين يقولون عبر العصور إن الله لم يحرم الرق ولم يلغِ نظام ملك اليمين.. أبعد ذلك نستغرب من «داعش» وأخواتها عندما يقاتلون عباد الله بدعوى نشر الإسلام وإعادة الخلافة ويقومون باستعباد الأسرى المسالمين من الرجال والنساء، فيصبحون ويصبحن أرقاء وملك يمين، ثم يجيزون لأنفسهم بيعهن ونكاحهن؟!
هذه هى بضاعة المدرسة الدينية القائمة بيننا التى نقلت لنا الإسلام المزيف، وما «داعش» إلا أحد أتباع هذه المدرسة.
يا صديقى إن آيات ملك اليمين استُغلّت فعلاً فى استعباد البشر وجعلهم خدماً وعبيداً، أخرجوها من سياقها وجعلوها تشريعاً، وهى من الآيات المتشابهات التى تحتمل تأويلات كثيرة، فقاموا باتباع المتشابه من القول، وهذه هى الجريمة الكبرى عندما يحرّف الكتاب وتدخل فيه الأهواء!
كيف يقبل عقل راجح وقلب سليم أن الإسلام الذى جاء ليحرر البشر من العبودية ويجعلها لله رب العالمين وحده أباح الرق، ومع ذلك جعلوا من تشريعات «ملك اليمين» استعباداً للبشر باسم الله، وهذا هو الزيغ، وهذا هو اتباع المتشابه بعينه، ولو ردّوه إلى الآيات المحكمات التى تنهى عن استغلال البشر لكان خيراً لهم ولنا، لكن للأسف لم يحدث هذا.
وقد بحث القدماء عن وسيلة تضمن استمرار بقاء الرق الذى قرر القرآن إنهاءه بالتدريج، فكانت الحروب والغزوات التى أطلقوا عليها «فتوحات»، وما زالت كتب الأزهر وغيره تقول إن الرق باقٍ للأبد لأنه إذا قامت حرب بيننا وبين الغرب الكافر جاز لنا أن نسترق ونسبى رجالهم ونساءهم!
هذا الكلام الباطل لا يستقيم مع الحقيقة القرآنية، لأن القرآن لم يُجِز أبداً أن نذهب غزاة لدول أخرى، القرآن أجاز لنا فقط أن نحارب دفاعاً عن أنفسنا وبلادنا ضد أى دولة غازية، مصداقاً لقوله تعالى: «وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين»، فإذا ما قاتلنا دفاعاً عن بلادنا فإن العدو فى القتال ليس له إلا شىء من اثنين، إمّا القتل رداً على اعتدائه ودفعاً له إذ إنه جاء إلينا يحمل السلاح بغير حق يبتغى قتلنا واحتلال بلادنا، وإما الأسر، والأسر غير التملّك والاستعباد، لأن الأسير له حكمان، هما إمّا المنّ وإطلاق السراح بلا مال، وإما الافتداء بالمال، وبذلك تكون كل الفتاوى التى خرجت من الأزهر والمدارس الدينية التى تبيح الرق وملك اليمين استناداً إلى الحرب مع الكفار هى فتاوى باطلة من أصلها، فلا يوجد من ناحية ما يسمى الفتح فى الإسلام أى غزو بلاد أو مدن والاستيلاء عليها، فحروب الإسلام دفاعية، ومن ناحية أخرى فإن هذه الحروب لا تجيز وفقاً لمدرسة التراث نفسها إلا القتل أو الأسر، ولذلك فوفقاً لهم لا يجوز أن تكون الحروب والقتال هما سبب ملك اليمين والرق.
لم يرَ هؤلاء أن آيات ملك اليمين والرق جاءت بصيغة الماضى والمضارع، ولم تأت بصيغة المستقبل، بمعنى أنها لم تضع تشريعاً يُحل هذا الأمر فى المستقبل، لذلك كما قلت جاءت صيغته القرآنية بفعل الماضى أو فعل المضارع، ولم يبح الله أن يستمر هذا النظام، فلم يقل مثلاً: كُتب عليكم أن تسترقوا الذين يحاربونكم.. . ولم يقل مثلاً: لا جناح عليكم أن تبيعوا الأسرى وتسترقوهم.. لكن جاء الإسلام والرق البغيض أمر واقع، لم تحرمه من قبل اليهودية، ولم تحرمه المسيحية، ولم تحرمه أى عقيدة على وجه الأرض، فكان لا بد للإسلام أن يضع تشريعات تنظم التعاملات فى مثل ذلك الواقع الدولى، وتخفف من آثاره السيئة، ويكفى المسلمين بعد ذلك ما وجدوه فى المقاصد العامة للقرآن الكريم التى تحرم استعباد أى إنسان.