الأهرام
عبد الجليل الشرنوبى
مهرجان (مافيش إعلام يِّتْصَاحِبْ) !
يتجسد الضمير الوطنى «بهية»، مواطنة مصرية عجنتها طينة نيلنا، وأنضجتها خطوب عشرات القرون فصيرتها حكيمة، وأحالتها أوجاع العصور إلى وتد رساخ فى عمق مصر والمصريين، ترمى «بهية» نظرها إلى واقع وطنٍ مأزوم، حيث رئيس وضع الشعب ثقته فيه، ركب طائرته الرئاسية متجهاً إلى الشرق، ساعياً لفتح آفاق جديدة لعلاقات مصر الخارجية، ومستهدفاً مكانة جديدة لوطنه على خريطة عالم ملتهب، وطامحاً لنقل خبرات أمم تشابه واقعهم مع واقعنا الحالى قبل أن يمتلكوا قرارهم ليكونوا .
«بهية» تتابع جولات الرئيس على الأقطار، (روسيا الصين سنغافورة إندونيسيا)، يتسع داخلها الأمل فى أن «مصر» التى كانت تسعى بخطوات واثقة للعودة، محدثة توازناً فى العلاقات الخارجية، وفاتحة أقواس المشترك بينها وبين دول عدة لتعاون يثمر مشاريع عملاقة، وناقلة لخبرات شعوب قاست ما قاسينا وامتلكت قرارها فتعافت. إنها راية الأمل التى عقدها الشعب بناصية رئيسية، الذى لا يجب أن يُسْلِمه قومه، التى يجب أن يحملها كل فرد فى نظام حكمه، والتى تستلزم «تَنَبُه» كل راع فلا يؤتى حلم الوطن وهو على ثغره يرعى.

وبينما «بهية» مأخوذة بخطو السعى لبناء ما هو قادم، يصطدم سمعها بخليط من أصوات بعثرتها عشوائية عصر الفساد والإفساد، وجمعتها عقول أنجبتها تلك العصور المخلوعة والمعزولة، لم تستطع «بهية» الضمير أن تستوعب للكلمات نطقاً أو تعى لها معنىً، حتى كان أن انبرى واحد من إعلامى أكبر الفضائيات (الخاصة)، ليستضيف فريق (مهرجان مافيش صاحب يتصاحب)، ولينبرى الإعلامى النجم شارحاً للرأى العام التواق للمعرفة، كلمات المهرجان التى يقول مطلعها (مافيش صاحب يتصاحب.. مفيش راجل بقى راجل.. هنتعامل هيتعامل.. طلع سلاحك متكامل.. هتعورنى هعورك ونبوظلك منظرك.. هتجيب ورا تصبح مرا)!

لا يستطيع الضمير المصرى الذى تجسد بشراً سوياً فى «بهية»، استيعاب النقلة التى يصنعها إعلامنا فى الداخل، بينما الرئيس فى الخارج يسعى لوضع الأحرف الأولى على أوراق اتفاقيات تعاون صناعى واقتصادى وسياسى وثقافى وديني. إنه يستهدف وضع خطط للبناء لن تقوم بينما الشعب منهمك إعلامياً فى مناقشة حكم تعاطى أغانى المهرجانات. تحدث «بهية» نفسها بصوت الواثق فى ولاء صناع الرأى لوطنهم خاصة فى هذه اللحظة الدقيقة القاسية، تقول (بالتأكيد حلقة كهذه مجرد كبوة ولكل جواد كبوة)!

غير أن حسن الظن فى أزمنة التآمر لايمكن أن يكون فضيلة، فحينما كان الرئيس يحاور نظيره الإندونيسى حول (سبل تطوير الخطاب الدينى ومكافحة التطرف والإرهاب)، وبينما كانت لجان التنظيم الإخوانى تسعى لتسفيه زيارات الرئيس الخارجية، بينما تعمل ماكينته الدينية على تكفير مصر رئيساً وحكومة وشعباً، كانت شاشة فضائية كبرى خاصة أخرى، تُخرج ضحكات رقيعة ساخرة من كل محاولات مصر للبناء، ومسفهة من أحلام شعب ثار ثورتين وطال صبره وجوعه، حيث خرج مذيع (ذكر النوع والجنس) عبر الشاشة مستضيفاً كعادته واحدة من خبيرات التجميل، لتقدم شرحاً لـ (سنفرة القدم للنساء)، غير أن حضرة المذيع الرجل باغتها والمشاهدين قائلاً (كان نفسى أعمل ركبى جداً بس للأسف البنطلون ضيق مش بيطلع) وبعد محاولات وجهد جهيد نجح فى رفع البنطلون، وهو ما دفع الخبيرة للتعليق قائلة (برافو عليك ... الإرادة مهمة و الإصرار)!.

سنفر المذيع الرجل قدمه ركبتاً وكعباً، بينما رئيس دولته المستهدفة فى الخارج يجاهد ليكون لوطنه من المكانة ما يليق، وللمواطن المصرى من خبرات الشعوب ما يؤهله لأن يفيق ويستفيق، ولكن يبدو أن ثقافة المهرجانات باتت هى الشعار الذى قرر الإعلام رفعه ليغنى (مافيش مواطن يتصاحب، مافيش راجل بقى راجل). لكن حُسن الظن فى الضمير المصرى فطري، لذا فلقد اعتبرت «بهية» ما فعله المذيع مجرد هفوة ولكل مذيع هفوة، كان ذلك قبل أن تستيقظ كما استيقظت مصر على متابعات إعلامية متخصصة لما فعل المذيع على صفحات ومواقع كبريات الإصدارات الخاصة والحزبية والعربية، فأطلت علينا عناوين من عينة ( مذيع مصرى يعود للجدل بالفيديو أول رد للمذيع سنفر رجله على الهواء- المذيع : فيها إيه لما أشيل الجلد الميت من رجلي) .

إن قلب «بهية» يحمل من الهموم الكثير، لكن هم بنيها هو الأثقل، فأنّى لضمير وطنى أن يرتاح وهو يرى إدارة وطنية تسعى بجد وتجاهد معاول الهدم وشعباً يئن مرضاً ويصبر جلداً وينتظر بأمل الغريق المتعلق بقشة إنقاذ أسماها عبد الفتاح السيسي، وبين الإدارة والشعب إعلام ينادى فى وعى الشعب (أن حى على السنفرة فى مهرجان مافيش وطن يتصاحب) .

لكن بهية الضمير المصري، تثق فى أن بنيها يمتلكون من أسباب الإنسانية ما يُمكنهم من تجاوز كل مؤامرات الانكسار والتفتت، يستطيعون حين التنبه لقيمتهم أن يواجهوا كل توحش مهما عظمت قوته واستشرى فتكه، لقد أنجبت «بهية» فتاة فى مثل أصالتها صلابة، وقوتها حياة، (سمر سيد) عروس النيل المصرية التى تقاوم أبشع أعداء الحياة (السرطان)، قررت أن تقاوم فتكة بصناعة السعادة، قررت أن تمثل لدقائق دور العروس مرتدية فستانها، بينما قرر أبوها أن يدعمها ليكون (العريس)، تعلم بهية أن بنيها يقاومون بصناعة الفرحة كل عدو.

تئن «بهية» ولا يشفى مر أنينها استيعاب الرئيس الذى يقف بين طلاب الكلية الحربية ليوصيهم بوطنهم (عايزكم تخلوا بالكم، ولما تخرجوا فى إجازتكم وتتكلموا مع الأصحاب والأسرة، قولوا لهم إن أخطر حاجة الجيل الرابع من الحروب وإزاى بيتم استخدام وسائل الاتصالات ووسائل الإعلام فى الداخل والخارج علشان يئذوا بلدنا.. ما حدش يقدر فى حرب يضرب دولة ويهد فيها زى اللى بيحصل فى الوقت ده، إلا لو كانت الدولة بتضرب نفسها،الهدف تدمير البلاد، ولو البلاد ادمرت مش بترجع تاني، حب الوطن مش كلام ولكنه أداء وتضحية وإيثار وبذل،البلد دى مش بلد حد بعينه، دى بلد كل المصريين). هذه هى رؤية الرئيس الذى تنتظر منه بهية، طرحاً لإعلام الوطن المستهدف، الإعلام الذى غرق وأغرق الوطن فى حساباته الإعلانية وتبعيته الرأسمالية وقواعده التسويقية، فتحول من سلاح مقاومة إلى معول هدم ينشر ثقافة الفوضى فى ساعة وجوب البناء، ويرسى أسس التسطيح فى وقت فرضية التنبه، ويُروج لسلع فاسدة، ويُسفه كل نبيل حتى لا ينكشف قبحه، ليغنى مغنوه (مافيش إعلام يتصاحب).
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف