الوطن
محمد أبو حامد
أساس أزمة الإنسان العربى
يقول الشاعر والمفكر السورى على أحمد سعيد إسبر المعروف باسمه المستعار (أدونيس): اعتقاد الإنسان بأنه يمتلك الحقيقة هو مصدر كل قمع، فهذا الاعتقاد يسجن العقل: عَقْل الذات، وعقْل الآخر، الآخر الذى ربما أصبح قتله بالنسبة إلى الذات التى تعتقد هذا الاعتقاد، جزءاً لا تكتمل إلا به، لأنه يمثل لها الانسجام، ويمثل السلام والخلاص، إن فى هذا ما يوضح لنا كيف أن المذهب السياسى الأيديولوجى يطلب من أتباعه ما يطلبه المذهب الدينى من أتباعه: الخضوع دائماً، والتضحية بالذات حيناً، والقبول بتضحية الآخر غالباً، ففى الأضحية يتلاقى الدينىّ والأيديولوجى، ولعلّ فى هذا أيضاً ما يُوضح على مستوى البحث والمعرفة، كيف أن العقل العربىّ المهيمن سجين وأنه لكى يموّه سجنه كسائد يسجن غيره كمسود، وفى أبسط الحالات نلاحظ أن العقل العربى السائد ليس إلا عبودية خضوع أو جبروت إخضاع، فبدءاً من قبول الأضحية لا بد من قبول الخضوع من جهة، وقبول إبادة الغير من جهة ثانية: والغير هنا هو العدو/ العميل، بلغة الأيديولوجيّة السياسيّة، وهو الخارج/ الكافر بلغة اللّاهوتية الدينية.

المذهبيات، سواء كانت دينية أو سياسية، سلطات، وهى إذن بالضرورة تفرض أشكالاً من القمع الخاصة بالسلطة، وهى لا تملك بقوة وسيطرة، إلا على بشر يفكّرون بطريقة واحدة، وانطلاقاً من ذلك يصبح طبيعيّاً القضاء على الأشخاص الذين يبتعدون عن الصراط، ذلك أن الفكر التسلطى، سواء كان دينيّاً أو سياسياً، لا يواجه الآخر من حيث إنه إنسان يعقل ويفكر، يبحث ويتساءل، بل من حيث إنه كائن يؤمن أو يكفر، يخضع ويتبع أو يرفض وينابذ، أى أنه لا يواجه الآخر إلا (اتهاميّاً) والآخر مجرم سلفاً بشكلٍ أو آخر، وعليه أن يثبت براءته إذا أراد أن يحيا.

إذا كانت هذه الصورة هى السائدة فما يكون دور المفكر؟، إن دوره يكمن تحديداً فى نقد هذا العقل السجين، فى تفكيكه وتهديمه، لكن حين يمارس هذا الدّور لا بد من أن يجد نفسه بادئ ذى بدء باحثاً عن منشأ هذا العقل، وأسباب تكوّنه، وعوامل استمراره، وسوف يتبيّن له أن السجن هو ذهن المُعْتَقِدِ ذاته، وهو معتقده كذلك، ويتضح له بالتالى أن عليه أن يدرس بُنَى الفكر والشعور، وأن يهبط عميقاً فى اللاشعور الجمعى والفردى، لكى يقدر أن يفهم المبدأ الذى يتأسس عليه هذا العقل ويصدر عنه، فلكى يتغيّر ما بالظاهر لا بد أن يتغيّر ما بالباطن بتعبير آخر، لا بد لكى يتغيّر ما بالمجتمع، من أن يتغيّر ما بالأنفس.

إن فكراً عربياً حديثاً لا يبدأ من السؤال النقدى: كيف تأسس ما نسميه بالفكر العربى أو الفكر الإسلامى، ما معناه، ما مداه لا يمكن أن يكون إلا فكراً بلا جذور وبلا فعالية، تماماً كالنباتات المعرّشة الطفيلية أو الفطرية، مع ذلك ثمة انهماك سائد بدراسة الظاهر السياسى، الواقع المرئى المباشر هو وحده الجدير بأن يكون ميدان البحث، لكن السؤال هو: ما المرئى العربى؟، وما وراءه؟ ما الذى تعطيه الصورة، وما معناه؟ إن دراسة ذلك الظاهر لا قيمة لها، إذا لم نعرف باطنه أو ما وراءه، إن دراسة المُعلن وحده، خصوصاً فى مجتمع كالمجتمع العربى، تظل سطحية وعقيمة، ذلك أن هذا المجتمع يقوم فى أعمق خصائصه على المكبوت، المحجوب، حتى إنه ليمكن القول إن الفكر العربى الحقيقى اليوم، هو الذى يدرس المخبوءَ لا المكشوف، والصمت لا الكلام.

هذا وضع يسمح لنا بالتوكيد على أن الأسئلة الأساسية التى يمكن أن تؤدى إلى تأسيس فكر عربى جديد، قلّما تطرح، وفى غياب هذه الأسئلة ينشطر الفكر العربى السائد فى اتجاهين: الأول لا يقول للعرب إلا المستساغ، المعقول، وهذان يزيدان المكبوت كبتاً، ويطمسان الإبداع، وإذا كان التاريخ فى الأمم الحية جميعاً هو تاريخ الإبداع، فإن تاريخ العرب الراهن هو المستساغ، أى تاريخ الرّماد، أما الثانى فيقول للعرب مستساغاً نظرياً من نوع آخر كأنه يقول الثياب لا الجسد، والظل لا الشجرة، ولعل فى هذين الاتجاهين ما يفسر كيف أن النهضات أو الثورات العربية المتلاحقة فى هذا القرن، لم تكن إلا ثياباً، وكيف أن العقل والجسد استمرا فى قيودهما القديمة، وقد أضيفت إليها قيود جديدة، هذه الأزمة المعرفية هى فى الأساس أزمة الإنسان العربى.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف