الأهرام
احمد عبد المعطى حجازى
2 ـ الدين والفن.. لغة مشتركة
أستأنف اليوم حديثى الذى بدأته فى الأسبوع الماضى، وأواصل فيه مناقشتى للفتوى التى أصدرها الأزهر حول الفيلم الذى أنتجه الإيرانيون عن الرسول عليه السلام، وحرم فيها على المسلمين أن يشاهدوه.
وقد عبرت فيما سلف من هذا الحديث عن عدم فهمى لهذه الفتوى التى حرم فيها رجال الأزهر مشاهدة عمل فنى لم يشاهدوه، ولم يأخذوا عليه إلا أنه صور شخصية الرسول، وهذه هى المسألة التى أناقشها، لماذا يقف علماء الدين هذا الموقف العدائى من الفن؟ وهل علموا أن الفتاوى التى أصدروها فى الماضى والحاضر لم تمنع المسلمين من أن يشتغلوا بالفن وأن يتذوقوه ويعبروا فيه عن أفكارهم ومشاعرهم، لأنهم حين استفتوا قلوبهم لم يجدوا حرجا فى الاشتغال بالفن، ولم يفهموا من فتاوى الفقهاء الا أنها تعبير عن سلطة وليست تعبيرا عن دين؟
ونحن نعرف جميعا أن الفن كان دائما وسيلة من أهم الوسائل التى نفهم بها الدين ونمارسه ونعبر عما نجده فيه من عواطف وأفكار وتصورات.

النص الدينى المقدس فى مختلف الديانات السماوية وغير السماوية إعجاز فنى يتحقق بالأدوات التى تتحقق بها النصوص الأدبية الرفيعة، والعمارة الدينية فى المساجد والكنائس والمعابد والصور والأيقونات والتماثيل والتراتيل، بل نحن نعرف أن الدين هو التربة الأولى التى نبتت فيها معظم الفنون، لأن الدين معرفة أولى، ولأن العواطف الدينية الحميمة كانت تبحث عن أشكال تجسدها وتعبر عنها، ولأن العواطف الدينية لا يمكن أن تنفصل عن العواطف الدنيوية، فالمنبع واحد وهو الإنسان بروحه وجسده وأحاسيسه ومشاعره، فإذا كانت عواطفنا الدنيوية تعبيرا عن حاجاتنا ومطالبنا فى هذه الدنيا، فنحن نحاول فيها أن نكبح جماح هذه المطالب والحاجات ونسمو بها ونتطهر، فى الوقت الذى نعيش فيه عواطفنا الدينية بكياننا الآدمى كله ونتمثلها بكامل طاقاتنا ومشاعرنا، ونعبر عنها باللغة التى نعبر بها عن عواطفنا الدنيوية كما يفعل المتصوفة فى أناشيدهم التى يتحدثون فيها عن عشقهم الإلهى وعن نشوتهم الروحية وخمرتهم المقدسة.. ومن هنا كانت لغة الدين هى ذاتها لغة الفن، لأنها لغة رمزية أو مجازية تقرب البعيد، وتجسد المجرد، وتجمع بين الظاهر والباطن، وذلك باستخدام فنون بلاغية تتجاوز بها اللغة معناها المتعارف عليه فى المعجم لتدل على معان أخرى متصلة بالمعنى الأصلى، وبهذا يصبح الوجه الجميل قمرا، والرجل الكريم بحرا، والمرأة الرشيقة غزالا، والبلاغيون يسمون هذا الفن استعارة، لأننا نستعير فيه كلمة لتدل على معنى غير معناها أفضل مما كانت تدل عليه الكلمة الأصلية، ولأننا فى الاستعارة ننقل الكلمة من معنى إلى معنى ونجتاز بها المسافة الفاصلة بين المعنيين، بين الوجه والقمر، أو بين المرأة والغزال، فنحن نسمى هذا الفن مجازا، ونسمى اللغة التى نستخدمه فيها لغة مجازية ننظم بها الشعر وننتقل فيها بين الدنيا والآخرة، كما فعل المعرى فى «رسالة الغفران» ودانتى فى «الكوميديا الإلهية».

وهذا مالفتنا له الفيلسوف الألمانى مارتن هيدجر فى حديثه عن علاقة الاستعارة بالميتافيزيقا الذى وقف عنده شاعرنا حسن طلب فى بحثه القيم حول «المقدس والجميل». فالاستعارة فى اللغات الأوروبية هى «الميتافور» metaphore، والميتافور مصطلح أدبى مؤلف من كلمتين يونانيتين تدلان فى الأصل على الانتقال من مكان إلى مكان آخر، فالترجمة الحرفية لكلمة «ميتافور» هى ما بعد المكان، وكذلك تتألف الكلمة الأخرى «ميتافيزيقا» metaphisique من كلمتين يونانيتين تدلان فى الأصل على الانتقال من عالم الطبيعة إلى ما بعده، أى عالم الغيب أو العالم الآخر، ولأننا فى هذا الانتقال إلى عالم الغيب وفى حديثنا عنه نحتاج إلى لغة تسميه وتكشف لنا فيه ما لا تكشفه اللغة التى نستخدمها فى عالم الطبيعة، فنحن فى حديثنا عن الدين وفى تعبيرنا عن عواطفنا الدينية نحتاج للمجاز، ونحتاج للاستعارة التى لا نستخدمها فى الفنون اللغوية وحدها، بل نستخدمها فى كل الفنون، فى الأدب، والتشكيل، والتمثيل، والغناء، والموسيقى.

وقد رأينا فى الأسبوع الماضى كيف استخدمت الاستعارة فى الشعر، فقلب الشاعر المتصوف مرعى، ودير، ومصحف، وملابس المولوية فى رقصهم الصوفى هى أجسادهم التى يتحررون منها ويعودون أرواحا صاعدة، وباستطاعتنا أن نتحدث عن الاستعارة فى العمارة الدينية، فنقول إن المحراب فى المسجد استعارة معمارية تتراجع بها الجدران أمام المصلين ويتحول المسجد إلى فضاء لا يحد، يتجلى فيه الله ويتجسد فى مخلوقاته، وكذلك نتحدث عن المئذنة فنقول إنها براق يحملنا على صوت الشيخ محمد رفعت أو الشيخ مصطفى إسماعيل إلى السموات العلى.

والذى نقوله عن المساجد والمحاريب وعن رفعت والنقشبندى، نقوله عن المعابد الإسرائيلية والكنائس المسيحية وعن الأناشيد والتراتيل، عن مزامير داود، وقداسات بالسترينا، ومؤلفات باخ الذى جعل الغناء والموسيقى صلوات يتقرب بها إلى الله، كما كان المؤذنون المصريون يفعلون فى ابتهالاتهم التى تسبق أذان الفجر قبل مائة عام فى مساجد القاهرة.

كانوا يتفقون على أن تكون البداية لمؤذن منهم يختار هو المقام الموسيقى الذى ينطلق منه، وعندئذ تنفتح سماء القاهرة، التى انجابت عنها الظلمة للتجاوبات والترجيعات والتقاطعات والتداخلات المنسجمة المتآلفة صعودا من مقام إلى مقام ونزولا من نغمة إلى نغمة على نحو يتحول معه فجر القاهرة إلى أوركسترا سماوية، تشارك فيها الكواكب والملائكة.

قارنوا بين هذا الذى كان قبل مائة عام وبين الذى نحن فيه الآن، هذه الميكروفونات البدعة، التى أفسدت علينا هذه الرحلة الروحية الحميمة، وأصبحت تأخذنا هى وأبواق السيارات وتلقى بنا من حالق إلى ضجيج الشوارع وجنونها.

والذى قلناه عن الشعر والرقص والعمارة والموسيقى، نقوله عن النحت و التصوير، عن الأيقونات المصرية، وعن مايكل أنجلو و«تمثال موسى»، وعن ليوناردو دافنشى ولوحة «العشاء الأخير».

وهناك من يظن أن هذه الفنون التشكيلية ليس لها وجود فى الإسلام، لأن الفقهاء المسلمين حرموها.. لكن هذا الظن لا أساس له فى الواقع، فالتراث الإسلامى خاصة فى إيران وتركيا حافل بالمخطوطات والصور التى تمثل النبى عليه السلام، وتمثل الصحابة فى مواقف ومشاهد مختلفة، وباستطاعة من شاء من القراء أن يعود إلى الجزء الخامس المخصص للتصوير الإسلامى فى موسوعة الرجل العظيم ثروت عكاشة «تاريخ الفن»، ليرى هذه الصور التى تمثل النبى وهو طفل مع مرضعته حليمة السعدية، كما تمثله صورة أخرى فى هجرته مع أبى بكر الصديق، وثالثة مع خديجة، ورابعة فى معراجه، فضلا عن صور أخرى رسمها المسلمون للمسيح عليه السلام، ولمريم العذراء، ولطوفان نوح.

فإذا كان لدينا هذا التراث، الذى عبر فيه المسلمون عن عواطفهم الدينية فى فن التصوير.. لماذا لا يكون لدينا مثله فى فن السينما؟!

وللحديث بقية..
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف