الأخبار
الشيخ صالح كامل
خفة دم المصريين .. أين ذهبت؟
لعل من أكثر الأشياء جذباً لنا حين نختار مصراً مكاناً للنزهة والاستجمام، خفة الدم ولا شك إلي جانب أشياء أخري كالماء والهواء..
وكنّا نستحسن تلك الابتسامة الرائعة علي وجوه السائقين والبائعين، وكانت الأرصفة المصرية - يوم كان الشارع المصري يضاهي كل شوارع مدن الأبيض المتوسط الأوربية - تكاد تغرق في موجات من الضحك ونسائم من الابتسامات، وكان المرح يملأ جيوب الفقراء حتي لا تكاد تميزهم من الأغنياء، لقد صنع منهم الفرح بشراً يؤمنون أن القادم أحلي، واضحك للدنيا تضحك لك، و (محدش واخد منها حاجة ) كلها عبارات كانت تملأ محيط مصر وتمتزج بنسيمها فيزداد الواحد منا بهجة وتتملكه الرغبة في العودة إلي مصر بعد أن شرب من نيلها - طبعاً زمان - الآن مع الفلاتر ويالله السلامة.ومع هذا فمعظمنا يعود ولكن حاملاً فلتره معه.
وليتهم اخترعوا لنا فلاتر تنقّي التكشيرة التي باتت مرتسمة علي معظم الوجوه، وأعلم أن هناك العديد من الأسباب والمسببات التي تجعلها تتخذ من الوجوه المصرية الحلوة مسكناً وبإيجار جديد.. ولكن في الوقت ذاته أهدي لنا رسولنا العظيم أعظم نصيحة وهدي، حين قال : (تبسمك في وجه أخيك صدقة.. ) وحين دعا صلوات ربي عليه بالرحمة للبائع والشاري السمح ( رحم الله امرأً سمحاً إذا باع سمحاً إذا اشتري ). والسماحة لاترسم علي ملامح الناس إلا إذا رافقها الصفاء والطمأنينة وهما ما يتناقضان مع « البوز « والتكشيرة.لقد كان المصطفي عليه الصلاة والسلام، أعظم الناس قدراً وأشرحهم صدراً، وكان يمتلك قلوب الصحابة رضي الله عنهم، بوجهه الشريف البسّام، وبإشراقة محياه، وكلماته الطيبة.. فقد كان دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب. قال ابن عيينة : البشاشة مصيدة المودة، والبر شيئ هين، وجه طليق وكلام لين. والشاعر يقول :
أخو البِشر محبوب علي حُسنِ بِشرِهِ
ولن يعدم البغضاء من كان عابِساً
وتقول السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها واصفةً نبيها وحبيبها : ( كان ألين الناس، وأكرم الناس وكان رجلاً من رجالكم إلاّ أنه كان ضحّاكاً بسّاماً ). وهو الذي قال عليه الصلاة والسلام : ( لاتحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تلقي أخاك بوجهٍ طَلِق. ).
بالأمس زارني صديق وزميل عزيز، محاولاً إخراجي مما أحسه من وحشة وفراق وحزن.. وحين غادرني وهو مستشعرٌ أن الوضع يسمح بإرسال نكتة « عبر الواتساب « فعل جزاه الله خيراً.. ونكتته تلك أوحت لي بفكرة هذا المقال، وكانت حول الابتسامة في مصر وما أصابها وماشابها لدرجة أنه لم يعد الناس يشعرون بالابتسامة إلاّ إذا شاهدوا ميتاً مات وهو مبتسم.. فيهللون ماشاء الله مات وهو مبتسم.
أما إذا تبسمت في وجه أخيك يقول لك مكشر عايز ايه !!
وإن تبسمت لأمك تقول لك متسائلة : يامصيبتي عملت إيه يا ابن الإيه.. أما إن فعلتها في وجه أبيك، فيسارع بالرد عابساً : مفيش فلوس !!
وإن تبسمت لوحدك يمسكونك في قضية تحرش !! وإن تبسمت لمسئول يقول لنفسه : دي مصلحة !! حتي إن تبسمت لنفسك يقولوا عليك : أهبل !!
حقيقة ضحكت.. ولكنني بعدها رحت اتأمل هذه النكتة، والنكتة علي فكرة عادةً ما تكون كلاماً يستحق التأمل وبعض الساسة كان لديهم من يحلل لهم نُكت الشارع، فهي إحدي مقياسات الرأي العام. وهي انعكاس لوضع البلد والناس.
قضيت صيف هذا العام بين شواطئ الساحل المصري، وبين شاطئ مدينة كان الفرنسية.. في الساحل المصري تلقي التحية علي الناس فلايردوها بأحسن منها ولا حتي بمثلها.. وبالرغم من إصراري علي إفشاء السلام إلا أن الصدّ الذي لقيته منعني حتي من إلقائه وبذلك حُرمت أجراً كثيراً.. وأنا هنا والغالبية العظمي مسلمة أو عربية.. أما في «كان» فقد كانت الأغلبية بالطبع ليست عربية وليست مسلمة، ومع هذا لايلقاك أحدهم إلا مبتسماً في وجهك، بل يبادرك بالتحية.. وكأنهم سمعوا حديث المصطفي عليه الصلاة والسلام : ( إنكم لا تسَعون الناس بأموالكم، ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق ).
وقادني تأملي إلي حقيقة مفادها : أن أحد أهم أسباب هذا التجهم وهذه الحدة والصرامة هو ذلك الأثر والتأثير السلبي من شيوخ التليفزيون الذي هو في كل بيت، أولئك الذين ألبسوا الإسلام خصالاً ليست منه فتراهم عابسين لاتعرف البسمة إلي شفاههم سبيلاً، بينما هم في واقع الأمر في مجالسهم الخاصة من أظرف الناس وأخفهم ظلاً. حتي غدا الوجوم مصاحباً لاستقبال العلوم، يا علماءنا الأجلاء ومشايخنا الفضلاء.. تبسموا يرحمكم الله، وأعطونا القدوة، وجسدوا لنا فضائل التحية والابتسام والسلام واشرحوا لنا آدابه لتعود إلي الناس المودة.. وحتي لا يلام المبتسمون الذين لا ترضي ابتساماتهم حتي أهلهم الأقربين، فما بالكم بالشارع الغارق في المشكلات..
حقيقةً البسمة وحدها هي مركب النجاة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف