محمد ابو الفضل
من مفكر مغربى للرئيس المصرى
لم يسبق لى نقل خطاب من مثقف عربى لمسئول كبير، لكن لأهمية المعنى والمغزى الوطنى الذى ينطوى عليه الخطاب، وصاحبه، والمرسل إليه، تطوعت بالاستجابة.
الحكاية أننى حضرت قبل أيام قليلة مؤتمرا علميا فى عمٌان، حول الدين والشرعية والعنف، نظمه مركز «مؤمنون بلا حدود للأبحاث» بالاشتراك مع الجامعة الأردنية، والتقيت على هامشه المفكر المغربى المعروف سعيد بن سعيد العلوي، وهو محب لمصر، كما وصف نفسه، وله فيها أصدقاء وعلاقات وطيدة، ويتردد عليها كثيرا، ودار بيننا حوار طويل حول الأوضاع السياسية والإعلامية، بعد أن وجدنى أسجل اعتراضى على صحفى تونسى اسمه صلاح الدين الجورشي، بدا مهاجما لمصر، ومدافعا عن جماعة الإخوان المسلمين، وساق أمثلة مغلوطة، حاول فيها تزييف حقائق سياسية معروفة.
المفكر المغربى أيدنى فى معظم ما قلته لتصويب اتهامات التونسي، لكن بادرنى بسؤال مفاجىء «قل للرئيس عبدالفتاح السيسى يرفع يده عن الإعلام المصري، ويطلق الحريات ؟» لأن ما أراه على غالبية الفضائيات لا يليق بمصر التى نعشقها ونعرفها، قلت له أولا لست مسئولا فى الدولة، وثانيا لا توجد، على حد علمي، قيود رسمية على الإعلام، وكل ما تراه من اجتهادات ومهاترات تعبر فقط عن رأى أصحابها ومموليهم، قال مستحيل، فأنا أشاهد يوميا فضائيات مصرية لمدة ساعة أو ساعتين، جميعها تعزف تقريبا سيمفونية واحدة أو متقاربة، بها الكثير من عناصر التشويه، ما يشى (فى نظره) بالتضييق الذى لا يليق بمكانة مصر التى أعرفها جيدا، وأتوقع منها المزيد.
بدأ الدكتور بن سعيد العلوي، يسرد أسماء مجموعة من نجوم الفضائيات التى تطل علينا، وضرب أمثلة متعددة فى قضايا مختلفة، وسجل اعتراضه الشديد على تناول الأحداث السياسية، ومحاولات الإيحاء المتعمد من قبل البعض، أنهم قريبون من السلطة الحاكمة، ومطلعون على بواطن الأمور، ووصفها بالطريقة الساذجة، وتجاوزها الزمن، لأن المشاهد إما سينصرف عنها سريعا، استنكارا واحتقارا، أو تترسخ فى وجدانه انطباعات سيئة عن مصر، التى تستحق إعلاما واعيا ونزيها وشريفا ومسئولا، يتناسب مع طبيعة المرحلة الصعبة، حيث تواجه الدولة تحديات كبيرة.
النقطة المهمة التى توقف عندها المفكر المغربي، أن الاستمرار فى هذه الطريقة، يؤدى إلى اتجاه المشاهد العربى لبعض الفضائيات المعادية لمصر، والتى تقدم خدماتها بحرفية عالية، لذلك كرر طلبه راجيا توصيل رسالته «على الرئيس أن يرفع يده عن الإعلام؟» وهو لا يصدق أن من يقومون بالتصرفات التى يعترض عليها، من هجوم شرس على المختلفين فى الرأى مع الرئيس، أو من يروجون معلومات زائفة، أو يطبلون لكل كبيرة وصغيرة، لا علاقة للرئيس بهم، وصمم على أن الرسالة السلبية التى وصلت إليه وإلى غيره تأخذ طريقها عبر قنوات ومصادر رسمية فى مصر، أو على الأقل تلقى ارتياحا، وفى الحالتين مرفوضة وغير لائقة.
ثم بدا ممتعضا نتيجة تقديرى أنها تتم من جانب متطوعين أو متسلقين، أصبحوا «ملكيين أكثر من الملك»، لأن حصيلة أفعالهم تصب فى صالح الإضرار بسمعة مصر، حيث وصلت عبر برامجهم وكتاباتهم رسائل خاطئة، وقدموا صورة حضارية مبتذلة لها، وأصبحت نخبها الثقافية أقل حضورا فى المؤتمرات العربية، وصعدت نخب من دول عربية متباينة.
فى هذا المؤتمر الذى حضرته بالأردن، كان التمثيل المصرى قليلا، بالنسبة لما كان عليه الحال فى السنوات الماضية، وكان الحضور المغاربى كثيفا، من تونس والمغرب تحديدا، وهو ما يشير إلى اتجاه عام للانتقال التدريجى للثقل الثقافى من المشرق العربى (مصر والعراق وسوريا، لكن لبنان لا يزال حاضرا) إلى المغرب العربي، وهى قضية تحتاج لمناقشة منفصلة، حيث أصبحت لافتة، كما أنها كاشفة لمتغيرات كثيرة، وتطورات متسارعة فى البيئة العربية، قد تكون أسبابها السياسية معروفة، لكن روافدها الثقافية لا تزال على درجة من الالتباس، وسوف تفتح مستقبلا حوارا كبيرا حول عملية الانتقال الجارية الآن من المركز للأطراف، والتى لها دوافعها المنطقية، وما لم تنتبه مصر وتهتم جيدا بقوتها الناعمة، أخشى أن تصبح قريبا من دول الهامش الثقافى والإعلامي، بما لا يتناسب مع صعودها السياسي.
هذا هو مضمون الرسالة الذى التقطه من كلام الدكتور بن سعيد العلوي، والذى عبر عنه بوضوح فى ملاحظاته على الأداء الإعلامي، خاصة أنه يعرف أن مصر لن تخلو من الكفاءات، بحكم تواصله مع بعضها، ومعرفته العميقة بها، لذلك فاستمرار صدارة هؤلاء، سوف تكون لها تداعيات، تتجاوز الحدود الإعلامية إلى السياسية، وهنا نكأ المفكر المغربى جرحا، أعتقد أنه لم يعد خافيا على المسئولين، فقط يحتاج إلى معالجة، قبل أن تتزايد أضراره، فى ظل ما يتردد عن تلويح بقضايا فساد تطال بعض الإعلاميين، تمس سمعتهم وشرفهم بالطبع، وأيضا سمعة وشرف من احتضنهم أو غض طرفه عنهم فترة طويلة.
أما الجزء الغاطس الذى عبر عنه ضمنيا الرجل، فله علاقة بحال النخبة الثقافية، التى تصدرت المشهد سنوات طويلة، ومع أن غالبيتها أصابه قدر من الوهن، إلا أن أصحابها مصممون على الاستمرار فى احتلال مقاعدهم، فى حين هناك نخبة، قد لا يدرى بها كثيرون، كرست جهدها للعلم فقط، ولم تعرف طريقها للنفاق أو «الشللية»، فقد حضر مؤتمر الأردن عدد من الأكاديميين المصريين، أبرزهم (مع حفظ الألقاب) عبدالجواد ياسين، وحسن حماد، وأشرف منصور، وأحمد سالم، وسامح إسماعيل، ربما لا يعرف عنهم البعض شيئا، لأنهم شرفاء ولا يتكالبون على الإعلام، وأصحاب قامات ثقافية رفيعة فى تخصصاتهم المختلفة، وكانوا سفراء لمصر فى هذا المؤتمر.
من هنا يبدو الإمعان فى رسالة المفكر المغربي، المباشرة وغير المباشرة، عملية ضرورية، قبل أن تتراكم الأخطاء، وتتزايد المشكلات، وتتضاعف الأزمات، بصورة قد يصعب معها تعديل الدفة وتصويب المسارات، فهناك فضاء تتشكل ملامحه من حولنا، من غير اللائق أن نكون عنه غائبين.