«حدوتة» هذا «العباس».. من المؤكد أنك سوف تعرفه بسهولة إذا قلت لك معلومة عنه.. نعم بالضبط إنه عباس بن فرناس صاحب أول محاولة للطيران بجناحين من ريش!، «عباس» كان يقدم نفسه كعالم يفهم فى كل شىء، فهو مهندس وكيميائى وفلكى وعالم رياضيات، وهو أول من صنع قلم حبر فى التاريخ، ودرس الزجاج واخترع أداة لتقطيع الكريستال، إنه من ذلك الصنف من البشر الذين يرون أن كل شىء سهل، ولا ضير أن يدس أنفه فيه ليضبط إيقاع الواقع المحيط به على ساعة يده، وبمناسبة الساعة يحكى أيضاً أن عباس بن فرناس كان له إسهام فى صناعة الساعة الرملية، ليؤكد من جديد أنه رجل كل المهمات.
خرجت الأمور من بين يدى «ابن فرناس» عندما حاول الطيران، فقد درس حركة الطيور، وسرعة الرياح، وصنع لنفسه جناحين من ريش ثم قرر القفز من مكان مرتفع ونجح فى التحليق لفترة من الزمن، ثم انكفأ على وجهه على الأرض بعد حين. الرجل كان مجتهداً ويحاول، لكنه لم يوفق، لأنه لم يدقق فى «الحسبة»، بل قُل طاشت حساباته، فكانت النتيجة أن طار بعض الوقت ثم سقط، وعانى من ألم ممض فى ظهره، استوجب «ترييحه» لفترة طويلة من الزمن، حتى يعاود الاستقامة، أقصد ظهره بالطبع.
ولو أن «ابن فرناس» استوعب المثل العربى الذى يقول «ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع»، لما انكفأ على ظهره، ربما يكون قد سمع به، لكنه ضرب صفحاً عنه، لأن حجم الإثارة الذى أحس به، دفعه إلى التهرب من هذه الحقيقة. ويقول المؤرخون إن السبب المباشر فى سقوط عباس بن فرناس هو «الذيل»، فقد أغفل المغامر حكاية «الديل»، ولم يلتفت إلى أهميته فى الهبوط، فكان السقوط. وحكاية «الديل» تلك عبرة لمن يعتبر وكان له سمع وبصر.
«الديل» مهم جداً، وليت الناس تتعلم من درس «ابن فرناس»، فكل موضوع أو حدث أو واقعة فى هذه الحياة لا بد أن يكون له «ديل».. «الديل» مهم جداً، فأى موضوع فى الحياة لا بد أن يترك وراءه «ديل»، ومهما يحاول الإنسان أن يخفيه فإنه لا يستطيع، ويكون «الديل» هو الخيط أو «الدليل» الذى يؤدى فى مواقف معينة إلى إفشاء الكثير من الأسرار التى تكشف عن بواطن الأمور، ومن لا يفهم هذه الحقيقة ويترك «ذيله» مكشوفاً فإن النتيجة المؤكدة أن يتم كشفه فى أقرب فرصة لتهرب خيوط اللعبة من يديه، ويصبح نهباً للقيل والقال، وكثرة السؤال، ليسقط فى النهاية، مثلما حدث مع عباس بن فرناس، عندما قرر الطيران بلا ذيل، وظن أن أجنحته الهزيلة مانعته من السقوط، فكانت النتيجة أن قذف به الريح، وبعد أن طار لبعض الوقت محلقاً فى عنان السماء، سقط سقوطاً مروعاً، لتدق الأرض عظامه، بعد أن لم يعد بمقدوره الاحتفاظ بتوازنه فى الهواء!.