الوطن
محمود عمارة
معرض الكتاب.. حاجة تفرَّح
فى فرنسا شوارع وحوارٍ وأسواق «للكُتب».. وعلى مدار العام معارض للكتاب، وندوات للمؤلفين وأصحاب الرأى، من المبدعين والرسامين والنحَّاتين وغيرهم!!

فى عز البرد، كنت أتعجب للنساء اللاتى يقفن فى طابور «طويييـــل» وكُرات الثلج تتساقط على رؤوس أطفالهن، ولا أحد يهرب من الأمطار أو يتململ من الانتظار.. الكل يبحث عن «وجبة» لتغذية عقله، مهما كانت تكلفتها.. فهناك «غذاء العقول» أولوية تسبق «غذاء البطون».. الدولة هناك مدركة، واعية.. مهتمة جداً بالثقافة.. عندهم وزير الثقافة أهم عشرين مرة من أى وزير أو وزارة أخرى، «والدعم» للثقافة يعادل دعم الزراعة!!

كنت فى كل مرة أقف فى طابور للكُتب.. أتحسَّر على «دور الثقافة» عندنا.. ومع زملاء المهجر نتّريق ونقول: هذه الطوابير فى مصر لن تجدها سوى أمام محلات الفول والطعمية.. مين المصرى أو المصرية اللى «هتقف طابور» لشراء كتاب؟ ونتذكر مقولة عمنا الراحل الأستاذ «محمود السعدنى»، عندما حضر اجتماعاً لمجلس تحرير إحدى المجلات التى لا توزع ألف نسخة، وعجزت عن سداد المرتبات للصحفيين والإداريين والعمال.. فقام أحدهم يسب ويلعن هذا الشعب، الذى لا يقرأ.. شعب أُمى جاهل متخلف.. وينتهى الاجتماع «بقفشة» من الأستاذ السعدنى عندما اقترح: «أن يتفق مجلس التحرير مع محل الفول والطعمية المجاور وفروعه المنتشرة بالقاهرة، بتوزيع المجلة مجاناً مع كل ساندوتش»!!

أمس الأول تحقق ما تمنيته.. ورأيت بأم عينى «طوابير» نساء.. شباب.. أطفال.. عواجيز على أبواب معرض الكتاب.. زحام.. اهتمام.. تقليب فى الكتب والمجلات.. وطوابير تانية على ماكينات الحساب، رغم ارتفاع أسعار الكتب!

فى «قاعة الشرف».. بجانب أستاذى د. صبرى الشبراوى بدأ يتحدث هو عن: التنمية البشرية، وأهمية تسليح وإعداد المواطن المصرى لمعركة البناء التى نخوضها الآن، وكيف نواجه كل التحديات والمؤامرات، لنبنى مصر الجديدة التى نحلم بها بسلاح العلم، وعلوم الإدارة الحديثة.. وظل «د. صبرى» يُجيب عن أسئلة الحضور وبرع فى إقناعهم.

وتحدثت أنا عن التنمية الزراعية، متسائلاً: كيف يمكننا «الاكتفاء الذاتى» من الغذاء مع كارثة «الانفجار السكانى» الذى يجب «إيقافه» بأى ثمن، وبأى طريقة، مهما تكلفنا.. لأنه لا فرنسا ولا حتى أمريكا يمكنها خلق فرص عمل لـ2 مليون وستمائة ألف مولود سنوياً.. ولا يمكن لأية ميزانية فى أى دولة أن توفر غذاء وكساء، وخدمات تعليمية ورعاية طبية، أو حتى صــرف صحى ومقابـر لكل هذه الملايين!!.

وكررت أن فرنسا تعدادها من خمسين سنة 60 مليوناً، النهارده مازالوا 60 مليون + 6 ملايين أجنبى معظمهم عرب ومسلمون!! ولهذا ترى كل شهرين تغييرات مدهشة فى الخدمات والجماليات وجودة الحياة.. فالدولة هناك «سابقة المجتمع».. بتخطط له، وتحقق أمانيه.. عكس ما يجرى عندنا.. فهنا «المجتمع سبق» الدولة بكتير، بإسهاله «لأفواه الأرانب» التى تلتهم أية تنمية أو نمو مهما حدث من مجهود أو إنفاق، وهذا العبث يستلزم تدخلاً فورياً وحاسماً بحلول «خارج الصندوق».

المدهش والمثير للاهتمام: دخول أحد الأشخاص فجأة قبل نهاية المحاضرة، ليطرح السؤال التالى: أنا سمعتك يا دكتور عمارة بتقول إن فيه أمل، وفيه إرادة للتغيير، وأنا بقولك «مفيش أمل»، ولا فيه إرادة للتغيير.. فالسياسات هيَّه.. هيَّه.. والفساد هوَّ.. هوَّ.. يبقى فين الأمل، وفين الإرادة؟

لغاية كده السؤال منطقى، ويحتاج للتعليق، وعلّقت باتفاقى معه فى أن السياسات وأغلب البرامج الفاسدة القديمة فعلاً ما زالت سارية، وواجبنا أن نستمر فى الضغط على الدولة حكومة ورئاسة، حتى يتم التغيير الحقيقى!!.

المدهش: أن نفس «الشخص» رأيته فى قاعة أخرى كنت حاضراً فيها كمستمع، دخل وقال نفس الكلام بعصبية شديدة.. «مفيش أمل.. ومفيش إرادة للتغيير».. وكل اللى بيحصل هو اللى كان بيحصل أيام مبارك!!.

السؤال: هل هذا الشخص هو من جماعة الإخوان الإرهابية، يريد إحباط الناس، وإثارة البلبلة؟

أم أن رأيه يحتاج إلى «تأمُّل»، ورد فعل من الدولة بتغيير سريع جداً لهذه البرامج الفاسدة، والسياسات البالية، وتحطيم البيروقراطية العقيمة قبل أن يتبخر الحلم!!

صباح الخير سيادة الرئيس

الطوابير أمام معرض الكتاب أعادت لنا الأمل.. فالبداية من هنا.. من القراءة.. من المعرفة، والتقدم الحقيقى والحضارى لا يحدث بدون هذا «السلاح» سلاح المعرفة (وهذا هو الفارق بين ما حققته النُّخبة فى تونس، وما نراه من تخبط عندنا)!!

والسؤال لسيادتك: طالما أن الشعب أبدى استعداده، وعبر عن رغبته فى القراءة والتعلم بدخول 120 ألف مواطن للمعرض يومياً.. والقائمون على هذا «العُرس الثقافى» أثبتوا أننا قادرون، ونستطيع تلبية رغبات الشعب (رأيت الأستاذ/أحمد مجاهد، واقفاً على باب المعرض يستقبل الضيوف واحداً واحداً، ومن حوله خلية نحل فى خدمة الناس) إذن.. لماذا لا نُقيم معرضاً للكتاب فى كل محافظة، بل فى كل مدينة، لنصل بمكتبات متنقلة للقرى والنجوع.. وعلى مدار شهور السنة.. وكل يوم جمعة أو عُطلة يخصص شارع للكتب فى كل حى، وسيادتك تنزل تتمشى وسط الناس، وتشترى معانا كتب قديمة وجديدة، وتعمل حاجة لدعم الثقافة!!.. فالدعم للعقول أهم من دعم اللصوص!!.

وأخيراً: تحية للشعب المصرى الذى استعاد الوعى، وأظهر تحضُّره فى الوقوف بانتظام، والمشاركة باهتمام، والذى اقتطع من قوت يومه لشراء كُتب أغلبها سعرها نار.. تحية لمنظمى هذا المعرض الرائع، ويارب كل يوم نلاقى حاجة تفرَّحنا.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف