تبدو حكاية الدكتور صلاح هلال، وزير الزراعة السابق، وكأنها دراما من النوع الرفيع. فالرجل جاء إلى منصبه فى مارس الماضى، ولم يمكث فى موقع الوزير، إلا ستة أشهر بالكاد، حتى كان قد خرج منه إلى الحبس متهمًا بأشياء كانت على مدى الأشهر الستة، أبعد الأشياء عنه، وكان أبعد الناس عنها!
أما منطق الدراما فى الحكاية، فهو ذو عدة وجوه، ليس أولها طريقة القبض عليه، ولا آخرها كلامه طوال الوقت، عن مقاومة الفساد!
إننى أتخيله، فى لحظة القبض عليه، فى ميدان التحرير، وهو يسترجع اليوم الذى عرضوا عليه فيه، أن يكون وزيرًا، وكيف أن قبوله المنصب كان بمثابة قبول بالذهاب إلى السجن!.. فالوزارة، بكل الأبهة المحيطة بها، وبكل مظاهر الوجاهة المرتبطة بصاحبها، كانت هى طريقه المباشر إلى الزنزانة!.. والعيب بالطبع فى شاغل المنصب، سواء كان وزاريًا، أو غير وزارى، وليس فى المنصب.
وقد كانت هذه هى المرة الأولى، التى يذهب فيها وزير فى الحكومة، إلى لقاء عاجل مع رئيسها، فيكتشف أثناء اللقاء، أن المطلوب منه شىء واحد فقط، هو تقديم استقالته.. وبسرعة.. ليس هذا فقط، وإنما كانت للدراما فى الحكاية بقية، لأن الاستقالة قد جرى قبولها فى لحظتها!.. ولا يعرف المرء، ما هى حقيقة شعور الرجل، عندما اكتشف أن عليه أن يقدم استقالته، سريعًا، ثم عندما اكتشف أنها كانت استقالة مقبولة، ودون تأخير دقيقة واحدة.
كان الوزير السابق يعرف مسبقًا بطبيعة الحال، أن الأجهزة المختصة تحقق فى قضية فساد كبرى، منذ نحو أسبوعين، وأن مكتبه كوزير، كان مسرحًا لهذه القضية، وأن شخوصها كلهم كانوا يترددون على المكتب.. أو بعضهم على الأقل، وكان مدير مكتبه المحبوس معه، واحدًا من أبطال القصة الرئيسيين، من أولها إلى آخرها.
وقد كانت طريقة توقيفه، هى الأخرى، دراما عالية فى حد ذاتها، لأن الرجل الذى خرج من مكتب رئيس مجلس الوزراء، متكئًا على مقعده الوثير فى سيارته كوزير، ومُحاطًا بالحرس، وطالبًا من سائقه فى المقعد الأمامى أن يتجه به إلى بيته، قد فوجئ بأربعة رجال من هيئة الرقابة الإدارية، ينتظرونه فى الميدان، ويستوقفون السيارة، ويطلبون منه التوجه معهم إلى جهة من جهات التحقيق لعشر دقائق!
ومن وجوه الدراما كذلك، أن جمعًا من أصحاب الأعمال، ومن مسئولى وزارته، وغير وزارته، كانوا فى انتظاره فى المعرض الزراعى، لافتتاحه، فإذا بالخبر يجيئهم، أن الرجل الذى ينتظرونه، قد صار بين أيدى رجال التحقيق فى قضية فساد وزارته، وأنه قد استقال، وأن استقالته قد تم قبولها على الفور، وأنه قد تم توقيفه، بعد قبول الاستقالة بلحظات!
ثم إن من وجوه الدراما أيضًا التى لا تنتهى، أنه على مدى الأشهر الستة، التى قضاها فى الوزارة، كان يحلو له الجلوس مع أهل بلدته فى القليوبية، بالجلباب البلدى، والسبحة فى يده، وكان لا يتوقف عن الكلام، عن أنه لن يرحم فاسدًا فى الوزارة، وعن أن أحدًا من أهل الفساد لن يستطيع الضحك عليه، وعن أن الفساد يلف ويدور، فى أنحاء البلد، ثم يأتى لينام عنده فى «الزراعة«!
وقد كانت الأيام الأولى لوجوده فى الزراعة تدعونا إلى أن نعقد آمالًا عريضة عليه، فى أن ينهض بزراعتنا، التى طال إهمالها، وطال تقاعس الدولة، ووزرائها المتعاقبين عليها، عن الاهتمام بها.. كان الرجل لا يكف عن التجوال هنا وهناك، وكان منظره بجلبابه البلدى، ومسبحته، وملامح وجهه الفرعونية، يقول إننا أمام وزير يريد أن يفعل شيئًا للزراعة، ويرغب فى أن يقدم لفلاحيها ومزارعيها شيئًا حقيقيًا.
صحيح أنه لايزال متهمًا، وصحيح أنه برىء، إلى الآن، حتى تثبت إدانته، غير أن ما تسرب من جهات التحقيق معه، ومع غيره، يجعل المرء يشعر فى أعماقه بأننا طال الأشهر الستة، كنا أمام تمثيلية من النوع النادر!