هذا الرجل عرفته الناس فنانا كبيرا اشتهر بأدواره المتميزة كممثل.. وأيضا كمخرج مسرحي من الرواد. ونقابي تفاني في خدمة أهل الفن.. وبعيدا عن كل
هذا انت أمام شيخ عرب بمعني الكلمة.. كان يقوم في المؤتمرات ولجان التحكيم بخدمة الصغير قبل الكبير بنفسه.. وكانت روحه الإنسانية البسيطة والمرحة علامة مميزة علي وجوده في كل مكان حيث يحضر.
وحكايتي معه تبدأ في الثمانينيات وكنت قد كتبت أول مسرحية كوميدية لي بعنوان "إلي اللقاء في جهنم" وحملتها بخط يدي إليه.. وكان يعرض عملا في مسرح ميامي بوسط البلد وانتظرته علي الباب حتي يخرج وعندما ظهر متجها نحو سيارته اسرعت إليه وقدمت النص.. بكلمات قليلة جدا اذكرها جيدا:
- يا أستاذ أنا فلان مؤلف جديد.. وستجد في هذا النص حمولة جيدة من الضحك واحكم بنفسك ابتسم ومضي بعد أن طلب مني ان اعود إليه بعد اسبوع لكي أعرف رأيه؟ وعندما جاء الموعد.. جلست أمامه ونظر نحوي مندهشا وبما ادهشني أنا أيضا وسألني بشكل مباشر:
- انت حشاش؟!
وضحكت وقلت له: أنا أصلا لا ادخن السجائر وأهرب من المدخنين ما استطعت إلي ذلك سبيلا؟! وكان سؤاله التالي: لا يمكن لشخص في وعيه ان يكتب كل هذا الكم من المواقف الكوميدية بسهولة؟! وكان هذا يعني انني اكتب الكوميدي بشكل جاد وبشهادة هذا الرجل الخبير في هذا اللون وكان وقتها مديرا للمسرح القومي وبدأ رحلة من الصداقة مع رجل كانت إنسانيته فوق فنه وانت تحبه علي هذا النحو حتي وان اخذك إلي السماء السابعة بمشروعات يفكر فيها.. ثم تكتشف انها مشروعات بعيدة.. لهذا لما تواجدت معه ذات مرة ولاحظت حركة غير عادية في مكتبه.. سألني بثقة: فين النصوص اللي عندك؟
قلت: نصوص ايه؟
قال: يا بابا مطلوب مني 30 مسرحية فصل واحد سيتم عرضها في تونس وتصويرها تليفزيونيا.. استمعت إلي الخبر ولم أعلق لكن في اللقاء التالي سألني: فين النصوص؟
وكذبت عليه وقلت له: أنا جاهز.. بعد أن لاحظت ان الموضوع جاد فعلا.. وخرجت من مكتبه بشارع عماد الدين ليس في دماغي فكرة ولا عندي النص الذي وعدته به.. وجلست إلي مقهي بجوار مسرح محمد فريد الذي تحول إلي دار سينما فيما بعد في نفس مكانه.. وأنا لست قهوجيا ولا أحب قعدة المقاهي الا فيما ندر.. لكن المضطر يركب "الكنكة" وبدأت ألعب في دماغي في تجربة عجيبة.. فقد وعدت الأستاذ راضي بأن التقي به مساء ومعي مسرحية وامسكت بالفكرة عن موظف يتلقي مكالمة بأنه علي موعد مع مديره وبدأ يحلم بالترقية والمكافأة وبدأ يتعامل مع زوجته وعياله علي هذا النحو يلقي بالعفش القديم.. ويخطط للمستقبل لكنه في النهاية يكتشف ان المكالمة جاءت له بطريق الخطأ.. في الثالثة ظهرا تحرك القلم علي أول ورقة.. وعند الخامسة كان القلم قد وصل إلي الصفحة رقم 30 تقريبا.. وذهبت إلي مقر الجريدة "الجمهورية" وكان قريبا من المقهي "المبني القديم".. واستثمرت خلو المكان من الزملاء ورحت اراجع ما كتبت.. وفي الموعد كنت أقف حاملا النص أمام الاستاذ السيد وابدي دهشته: مسرحية واحدة!!
قلت له: معلهش يا أستاذ الباقي جاي.. وطلب مني ان اعود إليه بعد يومين.. وعدت لكن اللقاء جري في مكتب منتج المسرحيات لطفي الزيني وهو تونسي.. والمكتب في الزمالك.. وقابلت مدير الانتاج محمد زكي الذي أصبح فيما بعد رئيسا لقطاع الانتاج بشركة صوت القاهرة وقبضت 250 جنيها كاد يغمي عليَّ وأنا اتسلمها من المحاسب.. إذن المسألة جادة وقد تم اعتمادي كمؤلف محترف في كام ساعة.. وامتدت الصداقة مع السيد راضي وسافرنا واكلنا وشربنا.. وبعد رحيله اكتشفنا اننا فقدنا قيمة إنسانية هائلة بحجم قيمته الفنية.. لكن الإنسانية دائما تكسب لأنها ابقي من الفن!