أعد على سلاميات أصابعى ما تركت عليها من نخل وسعف، وأبراج حمام، وناطحات سحاب، وأرسم على معصمى تلك الأهرامات المتدرجة فى الأحجار والمعنى مضمخة بعطر الأجداد، مرصعة بالفيروز والعقيق، ومكتوباً على أحجارها سؤالى تظلله شجرة ياسمينة التى لا تضوع إلا همسا: ماذا نقشت على جعران القلب فصارت له كل هذه الدقات المتوارثة أبا عن جد فتدفقت بالحب؟
ماذا نقشت على هذه المسلات الفرعونية الممتدة من قلبى، من قلب طيبة القديمة والقاهرة الجديدة إلى ميدان الكونكورد فى باريس، ولترتفع سامقة فى سنترال بارك فى نيويورك، وفى لندن، وفى إسطنبول المسلات التى أهداها الحكام إلى الحكام، والرؤساء إلى الرؤساء! أهدوا ما لا يملكون، ولكننا نقشنا على المسلات نفسها للشعوب: كلمات الحب، وتراث أول حضارة إنسانية عرفها التاريخ، ولم نكن ننتظر إلا الحب ذلك الذى قد لايعرفه بعض الساسة، وتفيض به قلوب الشعوب.
وها هو حابى إله النيل يجمع أبناءه.. أحد عشر ولدا فيسقيهم من مائه ليسقوا البشر بملاعق من فضة، وفناجين من ذهب: شهد عسله فمن ذاق شربة منه عرف، وعاد إليه مرة أخرى، وها نحن أبناء النيل نغنى له ونملأ شاطئيه باللآلئ: «عطشان يا اسمرانى محبة، عطشان يا اسمرانى، املالى القنانى محبة، املالى القنانى، يانيل يا اسمرانى يانيل».. أغنى فتتوقد روحى وتفرد جناحيها كطائر رخ، فى خوافية خافية من زمرد أخضر مرصع بالمرايا، وياقوتات حمر مضمخات بالعطر، على كل زمردة، وعلى كل ياقوتة ذرفت كل أحرفى، كل ما لديّ من ماء الذهب لتجد على ذراعك هذا النقش الفريد من روحى وقلبى، هذا الوشم الأخضر بلون كحلى، والأحمر بلون اليواقيت وكل روح من وجدها تغنى: «من أى عهد فى القرى تتدفق - وبأى كف فى المدائن تغدق - ومن السماء نزلت أم فجرت من عليا الجنان جداول تترقرق».
يا أعز الحبايب يا أسمر: لا شيء أعجب من ساقى وهى تراوح فى المكان نفسه عاشقة لشطآنك، وهذه الحدوات الذهبية التى دقها شاطئ واحد منها فى النهار على كعبى، يثبتها بمسمارين من فضة، ومدامك من مرمر.. لم تكن لى مثل هذه الساق من قبل، كان كل ما لديّ ساق من خشب أتوكأ عليها يضعها العادون فى الليل فى موقد النار حتى تتلهب.. تصبح دخانا فلا أسير إليك ولكنى حافية أعدو إليك على جسر من شوك وأمل.. والآن أدرك يا صاحبى أن الحدوات الذهبية هى نفسها مجرات النجوم التى رفعتنى إليها، والمسامير والمدامك ما كانت سوى رءوس أقمار تتخطف الأبصار فأسير إليك فى رحلة المجهول إلى المجهول، أطفئ مصباحى وأضيئه إشارات غرام حتى تخرج لى من ينابيعك البعيدة إلى دلتاك القريبة فأهتدى لحبك عند المصب، وأغنى لك: «يا مالى وجاى يمتنا، ومعاك الهوى بيميل، اسقينى على محبتنا، قدام العزول يا جميل، اسقينى على طول، ولا تسأل فى عزول، يانيل يا اسمرانى .. يا أسمرانى يا نيل».. لم يجب أحد عن أسئلتى، ولا أحد يعرف كيف تجتمع يمامتان على حبك فلا تنقر إحداهما الأخرى وكلاهما تعرف أن لها نصيبا من عين مائك، وحتى الدمع مقسم بينهما بالعدل ساعة أن تهشهما بيدين كبيرتين إلى عشب الأيك، وتعقد بينهما صلحا وهدنة حتى الصباح فتبيتان فى هذه الغلالة على شاطئيك: سروة، وخبيئة تمر وحب. .. أكانت هذه سرة الأرض، تلك التى تتفتح عامرة بالزبيب وشهد العسل تنساب فى صمت كنافورة، من بين رذاذ عسلها ألتقط ما لى وما عليّ: القبلات متناهية الصغر مثل أجرام سماوية بعيدة والهمسات فاغرة أفواهها كعصافير ولدت للتو، وقفت على مساقى ذراعيك ، تأرجحت، وكل منها يحسد العصفور الفائز ببيت شعر: «لا تبخلوا بمائها على ظمى - وأطعموا من خيرها كل فم».. كان هذا كل ما لى من سرة الأرض، عصفور وبيت شعر أحفظه عن دق قلب، أما الذى كان عليّ: أن أحمل الكون بذراعى، وأن أسير به إليك، ثمة ثمرة جوز هند تسيل لبنا، وشجرة هائلة تسعى على قدمين.. شجرة زيتون لم تمسسها يد، وما رأتها عين، يمامها قادم من كل أيك وفج يملأ السماوات تينا وزيتونا فنسير من عتق لعتق أحرارا نمضى من عشق لعشق، وما عليّ إلا أن أحمل الدنيا على ظهرى، وأسير بها إلى وطنى.. إلى كوكب الحب. •