القضية أكبر من إقالة حكومة، أو من تعبير عن النوايا الحسنة، فالفساد في مصر ليس مجرد ظواهر انحراف مالي وأخلاقي متفرقة، بل نظام كامل وامبراطورية تحكم وتعظ، ولفظة «الفساد»
قالالرئيس السيسي ـ في لقاء شباب الجامعات ـ أنه لن يصمت «علي فاسد أو مفسد»، وأنه لن يسمح لأحد «بأخذ جنيه ورق واحد ليس من حقه»، وهذا كلام طيب جدا، تعودنا سماعه من الرؤساء والمسئولين، لكن الرئيس السيسي شفع القول بالفعل قبل أن يتحدث، وأقال الحكومة بكاملها مع تداعيات قضية الفساد الكبري في وزارة الزراعة.
والقضية أكبر من إقالة حكومة، أو من تعبير عن النوايا الحسنة، فالفساد في مصر ليس مجرد ظواهر انحراف مالي وأخلاقي متفرقة، بل نظام كامل وامبراطورية تحكم وتعظ، ولفظة «الفساد» نفسها ليست معبرة عن هول ما جري، فالقضية ليست مقصورة علي جرائم فساد معرفة دوليا، كتلقي الرشاوي والاختلاس، أو استغلال السلطة الممنوحة، أو إهدار المال العام والاستيلاء عليه، وكل ذلك موجود عندنا وبوفرة، وقد يحد منه عمل الأجهزة الرقابية، أو استجابة السلطة التنفيذية لتقاريرها، وبما قد يحسن قليلا من وضع مصر كبلد علي مؤشر الفساد الدولي، وينزل بها في الترتيب التصاعدي للأكثر فسادا من 114 إلي 94 بين 175 دولة، وقد حدث ذلك أخيرا، ودون أن يعني أن الفساد خفت سطوته، ربما لأن ما جري في مصر ولها شئ آخر، أفظع وأشنع مما قد تشير إليه كلمة الفساد، فقد تعرضت مصر لنهب وتجريف غير مسبوق في تاريخها الألفي، وخسرت عشرات التريليونات من الجنيهات بحساب الفرص الضائعة في حرب النهب، وفقدت ما يساوي إجمالي ناتجها القومي في 14 سنة.
نعم، ما جري في مصر أوسع من أن يكون خللا إداريا ورقابيا مزمنا، فقد جري «شفط» بلد وتجريف أصوله، وبإرادة سياسية من أعلي سلطة، وبقرارات صريحة لا مواربة فيها، وبالتوازي مع الانهيار الكبير الذي بدأ عقب النصر العسكري في حرب أكتوبر 1973، ودخول البلد إلي نفق مرحلة انحطاط تاريخي طويل، شرب فيها الذين «هبروا» دم الذين «عبروا»، بانفتاح «السداح مداح»، وبإطلاق مزادات النهب العام، وعلي طريقة قولة الرئيس السادات المأثورة «خلي بالك من اسكندرية ياحاج رشاد»، ولم يكن الحاج رشاد عثمان ـ سوي شريك لعصمت السادات شقيق الرئيس، ورد السادات وقتها علي تنبيهات الأجهزة الرقابية بطريقة الصدمات الكهربية، وألغي جهاز الرقابة الإدارية بجرة قلم، وهو الجهاز الذي عاد خجولا في أيام المخلوع مبارك، ولكن مع «قصقصة» ريشه، وقص أجنحة الأجهزة الرقابية الأخري كجهاز المحاسبات، وتلويثها وإفساد الكثير من عناصرها، ودمجها في سياق عملية نهب وتجريف وحشية، حولت «القطط السمان» إلي حيتان وديناصورات، زاد انتفاخها مع تسهيلات ورعاية المعونة الأمريكية، ومع تشريعات «تقنين الفساد» التي أصدرتها المجالس المزورة، ومع شفط السلطة والثروة إلي أعلي، وإلي حيث العائلة التي تحكم، مع حوارييها من المليارديرات الجدد، والذين تراكمت ثرواتهم الفلكية من «التخصيص المباشر» لأراضي الدولة بالمجان تقريبا، ومن الخصخصة التي تحولت إلي «مصمصة» للأصول والمصانع والشركات العامة، ومن الإعفاءات الجمركية والضريبية بالجملة، ومن اقتصاد الجريمة الذي تداخل بشدة مع الاقتصاد الرسمي، ومن التداخل المهلك للسلطة والثروة والإعلام، وكانت النتيجة علي ما نري، اقتصاد دولة منهك، وموازنة عامة مثقلة بديون الداخل والخارج، وتراجع إلي ذيل الأمم، واعتياد لتسول المعونات، وتحطيم كامل للمرافق والخدمات الأساسية، وفقر ينهش التسعين بالمئة من المصريين، والذين لم يعودوا يملكون سوي الربع من ثروة بلادهم، بينما يملك 9% ربع الثروة، ويملك الواحد بالمئة الباقي نصف إجمالي ثروة مصر، ناهيك عما جري تهريبه ونزحه خارج البلد، فقد تلقت مصر منحا ومعونات لاترد بقيمة 300 مليار دولار منذ حرب 1973، بينما جري تهريب 300 مليار دولار في سنوات مبارك الأخيرة ومع خلعه، ولا نريد الاستطراد في حديث الأرقام المفزعة، ويكفي أن تعلم أن فروق المخالفات المرصودة علي الطرق الصحراوية وفي المجتمعات العمرانية الجديدة تناهز رقم التريليون جنيه، أو بالدقة 980 مليار جنيه لا غير (!).
إذن، فالقصة أكبر من مجرد تنشيط الأجهزة الرقابية، أو تنظيم ملاحقات محدودة، أو تقديم أكباش فداء صغيرة أو كبيرة، ثم الإنشغال بمحاكمات لا تنتهي إلي شئ ملموس في العادة، وكل ذلك لن يكون مفيدا ولا منجزا بما يكفي، فقد بدأت مواسم النهب بإرادة سياسية، ولن تنتهي سوي بإرادة سياسية مقابلة، خاصة أن الفزع الذي نتحدث عنه لم يعد ماضيا نجتر أحزانه، فهذا الماضي حاضر بقسوة، ويدهس حاضرنا بأقدامه السوداء، ويسيطر علي أغلب وسائل الإعلام، وينشئ الأحزاب أو يؤجرها، وينظم الآن أوسع عملية شراء لمقاعد البرلمان المقبل، ويريد أن يحاصر الرئيس، وأن يقول له : ليس لك أن تحكم إلا بنا، فهم يملكون الثروة، ويريدون وضع السلطة في جيبهم بالمرة (!).
أما والأمر كذلك، فإنها الحرب التي لايصح أن يتردد الرئيس في خوضها، وقد صبر الرئيس السيسي طويلا علي امبراطورية الفساد والنهب، وخاطبهم بالأخلاق والنوايا الحسنة التي لا تبني الأمم، ودعاهم إلي دفع بعض ما أخذوا في «صندوق تحيا مصر»، ولم يهرشوا جيوبهم إلا قليلا، وخذلوا توقع الرئيس بجمع مئة مليار جنيه كدفعة أولي، وبعد أن هددهم مرة علي طريقة «هتدفعوا يعني هتدفعوا»، عاد إلي مناشدة أخيرة في إفطارات رمضان الأخير، ودون أن يتغير شئ من سلوكهم اللامبالي، وكأن الرئيس يؤذن في مالطا، فهم يفهمون كلمة «تحيا مصر» بطريقة مختلفة عن التي في عقل ووجدان الرئيس، يفهمونها علي أنها «تحيا مصر» التي في جيوبهم، وهو ما يعني أن القصة استعصت علي الكلام بالحسني، وأن تحالف البيروقراطية الفاسدة ومليارديرات النهب قرر العصيان والتحدي، ولا يفل الحديد إلا الحديد، وخوض حرب «كنس» وتطهير تحتاجها مصر الآن.