"جابر" هو عنوان أحدث رواية للأديبة القاصة نجلاء محرم.. وقد قدمت من خلالها عملاً إبداعياً رائقاً تجمع بين جمال السرد وإسقاطات التاريخ والكثير من المعارف والخبرات مع خط رومانسي ناعم.. تتفاعل كل هذه العناصر في حبكة فنية متماسكة تحركها شخوص مرسومة بدقة.. أريد لها أن تقول في التاريخ كما لو كانت تقول في الحاضر.. وتحمل الرسائل التي تبثها في هذا التوقيت تحديداً.
تدور أحداث الرواية في مطلع القرن السادس عشر الميلادي.. في الفترة التي شهدت الفتح العثماني لمصر علي يد السلطان سليم الأول.. وجابر بطل الرواية نجار مصري بارع في فن الأرابيسك كان من ضمن الصناع المهرة الذين أرسلوا من القاهرة إلي اسطنبول تاركاً خلفه زوجته "زينب" وابنه "حسن".. وهناك علي شاطيء البوسفور يلتئم مع أصدقاء جدد.. منهم كنان حارس بوابة البدستان الذي يقيم فيه ومجموعة من المهاجرين الفارين من العبودية في الممالك الأوروبية الظالمة ـ فيينا ونابولي وليون والباسك وقشتالة ـ حتي يصل إلي أسرة صديقه "أصلان" رجل العسكرية التركي الذي تعرف عليه في القاهرة قبل اغتياله.. وتضم هذه الأسرة الزوجة "مهتاب" والابنة "آيفر" والجارة "بيللور" وزوجها "فرحات".
وبسبب ضيق المساحة في هذه الزاوية سوف أترك الحديث عن جماليات الرواية وجوانبها الفنية للنقاد والأكاديميين. وهم بالتأكيد سيوفون وزيادة. لأتوقف عند بعض الرسائل المهمة التي حملتها الرواية وبثتها في سهولة ويسر وأيضاً بوعي واتقان شديدين.
عنوان الرواية جاء علي هذا النحو: "جابر.. سلام من النيل إلي البوسفور".. وكأن نجلاء محرم تقول: إن جابر هذا الذي يحمل الروح المصرية والفن المصري البديع والذي سوف يستعان به لإعداد قاعة العرش السلطانية والذي سيزوج ابنه حسن بابنة صديقه أصلان "آيفر" هو في الواقع رسول السلام الذي جاء من القاهرة إلي اسطنبول ليقيم ويمتن صلة الرحم وأواصر المودة بين الحاضرتين الشامختين.. فالعلاقة التاريخية بين القاهرة واسطنبول قامت علي أكتاف جابر وأمثاله وليس بسيف السلطان الفاتح وعساكره.
ثم تقدم الكاتبة للرواية بمقطع شعري للسلطان سليم يقول فيه: "إن سجادة واحدة تكفي لصوفيين اثنين ولكن العالم كله لا يكفي لملكين".. وهي إشارة واضحة إلي ما بين قناعة الروح المتدينة وجشع السلطة من تناقض.
وفي مفتتح الفصل الأول تأخذنا الكاتبة إلي حوار جاد بين السلطان سليم وشيخ الإسلام "علي مالي أفندي" الذي يعترض بشدة علي قرار السلطان بإجبار اليهود علي اعتناق الإسلام.. السلطان يبرر قراره: "أنوي دفعهم إلي دين نبينا الكريم وتجنيب الدولة شرورهم ونيل رضا ربي".. وشيخ الإسلام يرفض: "هذه مخالفة صريحة للشرع.. فلا إكراه في الدين.. ولا تجعل دخول الإسلام عقوبة".. وعندما يحتج السلطان بأن الدنيا لها السلاطين والدين له المشايخ ينتفض شيخ الإسلام مهدداً: "سأعزلك يا مولاي بموجب ما بين يديَّ من سلطة منحها آباؤك العظام لشيوخ الإسلام".
وعندما علم جيش المماليك مهزوماً من مرج دابق انطلقت عساكرهم في شوارع القاهرة تقتل الأروام "الأجانب".. تقول نجلاء محرم في رسالتها هذه: "وبدلاً من أن يصرفوا جهدهم للملمة قواهم وتسليح الجند ينفثون غلهم وغضبهم في أناس آمنين طالما عاشوا بينهم.. وبدلاً من أن تفيقهم الهزيمة زادتهم بغياً وانصرافاً عن الأخذ بأسباب النصر".
وهذه رسالة ثالثة علي لسان فيليب القشتالي عن سبب فراره من بلده إلي اسطنبول: "الأوضاع هنا أفضل.. نحن هنا رعايا السلطان ولسنا عبيداً.. رعايا مسيحيون أحرار.. لنا ما لكم وعلينا ما عليكم.. تدفعون الزكاة وندفع الجزية.. نعمل كما تعملون ونتقاضي أجورنا ونعيش بكرامة.. نذهب إلي الكنيسة كما نحب ونحتفل بالأعياد كما نحب.. حتي اليهود يعيشون بأمان تام.. السلطان أصدر مرسوماً "بعدم الإساءة إليهم بعد ما زاد نفور الناس منهم".
وهناك رسالة رابعة علي لسان كنان: "كريهة هي الحرب يا جابر.. ما لنا نحن والمجر والنمسا.. اتسعت دولتنا شرقاً وغرباً وجنوباً.. ألا يكفي هذا لنعيش سعداء آمنين".
ورسالة خامسة علي لسان جابر عن الفرق بين وضع المرأة في القاهرة وفي اسطنبول.. يقول: "حياة النساء في مصر سهلة.. النساء يتعلمن ويخرجن ويشترين ويساومن الباعة ويزرن جاراتهن ويشاركن في حفلات العرس والولادة".
بقي أن تعرف ان نجلاء محرم إلي جانب إبداعها الراقي هي واحدة من أنشط الأدباء في رعاية الثقافة والمثقفين من خلال مركز النيل الذي تديره بالزقازيق.. لكنها لا تثير صخباً ولا ضجيجاً حولها.. لأنها تعف عن استخدام الجنس والمشاغبة في الدين.. ولا تتكيء إلا علي موهبتها الوقورة.