الجمهورية
السيد البابلى
آه .. يا بلد الكلام..!
تسير سيارة النقل وقد كتب عليها من الخلف عبارة "آه.. يا بلد الكلام". . وهي عبارة عن عبارات كثيرة فيها أقوال مأثورة اعتاد سائقو النقل كتابتها علي سياراتهم..
ولكن "آه يا بلد الكلام".. تحكي الكثير مما يجري ويدور في هذا البلد حاليا وعلي مدار أربع سنوات منذ قامت ثورة 25 يناير 2011. وكأن صاحب هذه المقولة أراد أن يختزل واقعنا كله في عبارة واحدة.
فما يدور في الفضائيات وما يقال فيها من حوارات وتحليلات وتعليمات وفتاوي يؤكد أننا كلنا أصبحنا نتكلم ولا أحد يستمع لأحد وكل متكلم يتحدث ويغير من مواقفه طبقا للموجة السائدة والمصلحة المتوقعة حتي أصبح هناك من يطلق علي هذا الإعلام تعبيرا سيئا وهو "إعلام السبوبة"..!
فالذين كانوا علي سبيل المثال يتحدثون كل يوم وفي كل البرامج ويقولون أنه لا كرة قدم بدون جمهور. والدوري لابد أن يستكمل بالجمهور. هم أنفسهم الذين تحدثوا بعد كارثة استاد الدفاع الجوي ليهاجموا قرار عودة الجمهور. ويقولون ان الظروف الأمنية لا تسمح وان الدولة في حالة حرب مع الإرهاب وان الدوري بدون جمهور أفضل..!!
***
والذين يغيرون مواقفهم في كرة القدم لايختلفون في ذلك عن المثقفين الذين كان العديد منهم يتمني ويلهث وراء جمال مبارك متمنيا الاقتراب منه ومصافحته ولفت انتباهه. ثم انقضوا عليه وعلي مبارك بعد قيام الثورة ونصبوا من أنفسهم أوصياء عليها وتحولوا إلي قادة جدد لثورة يناير والمزايدة عليها. وأخرجوا من صندوق العجائب صورا لهم في ميدان التحرير فوق دبابة وتحت الدبابة.. واعتلوا موجة الثورة..!
وما أن قفز الاخوان علي السلطة وبدأت ثورة يناير تفقد بريقها.. وجاءت ثورة 30 يونيه لتصحح المسار حتي كانوا أول من انقلب علي ثورة يناير واتهموها بالعمالة والمؤامرة وأنهم كانوا أول من حذر منها ومن تداعياتها.
***
ويا سبحان الله.. لهم في ذلك قدرة عجيبة علي الكذب وعلي تصديق ما يقولون كذبا.. ولهم الجرأة و"البجاحة" في انكار كل ما قالوه سابقا. والإدعاء بعكس ما يقولونه.. ولهم أيضا القدرة علي التلون والإقناع بحيث يتحدثون والبراءة والطهارة في أعينهم وكأن شيئا لم يكن وكأن دفاتر الماضي قد تم محوها وأن ذاكرة التاريخ لا يتم استرجاعها.
ولأنها الفوضي في كل أشكالها.. ولأنها مرحلة الضباب والغبار.. ولأن معالم الطريق لم تستكمل بعد.. ولأن الكلام أصبح ثمنه ذهبا.. والفضائيات مجهولة المصدر والتمويل تدفع وتدفع فإننا قد تحولنا فعلا إلي بلد الكلام..
وما دمنا نتكلم كثيرا فلن نعمل إلا قليلا... وما دمنا قد أصبحنا خبراء وأساتذة في كل شيء فإننا بذلك لن نتعلم شيئا ولن نضيف جديدا..!!
وما دام الكلام قد أصبح مباحا فإن كل شيء يصبح مستباحا. وحتي الحديث في الأعراض والسمعة والشرف لهما يعد له سقف أوحدود أو ضوابط..
***
ولهذا فإن كل من يتصدي للعمل العام ولتحمل المسئولية في هذه الأجواء لن يصمد طويلا ولن يكون في مقدوره اتخاذ قرارات حاسمة أو تطبيق القانون بكل أبعاده ومعانيه.
فلو كان حازما وحاسما فإنه سيجد من يطالبه بالرحمة والرأفة و"حقوق الإنسان"..!
ولو كان متسامحا يتعامل بالقانون والاحترام و"حقوق الانسان" فسيجد هجوما ضاريا واتهامات بالضعف والأيدي المرتعشة وضياع هيبة الدولة..!
ولن ينجو أحد من مقدم برامج بفضائية من فضائيات الإثارة والشهرة الذين اعتادوا استضافة المسئول للتشهير به والقفز فوق أكتافه بدعوي أنهم يبحثون عن المصلحة العامة..وأن هذا هو الاعلام الجديد.. إعلام الثورة والحرية.
وليتهم في بحثهم عن دور جديد للإعلام كانوا من المؤهلين ثقافيا وعلميا ونفسيا للقيام بهذا العمل وفهم رسالته ومسئولياته. إذ أن الواقع أن العديد منهم قد مارسه قفزا وفي ظروف معينة ولأهداف أيضا محددة.
***
ان هذا المجتمع في حاجة إلي رؤية إعلامية أكثر عقلانية واحترافية ومهنية. تبني ولاتهدم. تقود وتوجه ولا تنقاد وتنساق وراء المصالح والرغبات. ونحن في حاجة إلي اعلام يكون ضميرا للأمة يرتفع ويسمو فوق الصغائر والخلافات. ويعمل علي توحيد الصفوف ورأب الصدع. والتطلع إلي المستقبل بروح البناء بعيدا عن تصيد واصطياد الأخطاء والقفز فوق الأكتاف والأجساد..
نريد إعلاما يشجع الناس علي المشاركة والعمل العام. فبعض الناس قد أصبحوا يدفعون أموالا للإعلام من أجل أن تبتعد عنهم الأضواء بعد أن كانوا يدفعون من قبل لمجرد الاشارة إليهم.. فقد أصبح الاعلامي مدمرا ولم يعد مفيدا..!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف