الأهرام
عزت السعدنى
سرقوا مفتاحك.. يا دمشق!
أبكتني.. حتي جفت دموعي.. الشاعرة السورية فدوى قريطم.. ولم أجد لدموعي وسادة إلا وسادة الصبر.. والدعاء والتضرع إلي مالك الملك أن يرسل إلينا ملائكة الرحمة.


. بسيوفهم هذه المرة.. فالسيف أمضي في زمان ذهب فيه الرجال.. ولم يبق علي الشط إلا طوابير الأمهات الباكيات والجدات الصابرات.. ولم يعد للكلمة معني، في هذا الزمان ولا للفكر مكان.. فقد ضاع زمان الكلّم.. وتجبَّر ـ بتشديد الباء ـ الإنسان وبغي وتكبر وفرد طوله في كل دروب الأرض.. حتي نسمات الهواء وشربة الماء ابتلعها في صدره وجوفه..



ليذهب الجميع ويبقي هو وحده يأكل كل ثمرات الشجر ويبتلع في جوفه ماء النهر كله..

أقول: أبكتني حتي جفت دموعي.. الشاعرة السورية فدوي قريطم التي استضافتني يوما في بيتها في دمشق في زمان الصحو واليقظة.. هي وزوجها أستاذ الجامعة المتخصص في حضارة »بابل وآشور«.. وهي تحدثني عبر برامج التواصل الاجتماعي علي شبكة النت.. من ولاية فرجينيا الأمريكية.. وتقول لي: طبعا أنت تشاهد مع ملايين البشر في هذه الدنيا ما جري لأهلي ووطني سوريا الذي خربوه وشردوا أهله وقتلوا رجاله وشتتوا شمل نسائه.. لن أطيل عليك.. فقط سأقرأ عليك.. إذا كان لديك فسحة من الوقت ما كتبه شعراء سوريا الحزاني الحياري.. بعد أن ابتلع البحر نصفهم ونجا الباقون وكأنهم أحفاد «روبتصون كروزو»الذي أمضي عمره كله علي جزيرة في وسط المحيط الهادي بعد أن غرقت سفينته في رائعة دانيل ديفو.. تحت عنوان: «اركض حافيا علي ملح هذه الأرض الحزينة«..

قلت مقاطعا: اطمئني ياسيدتى لقد قرأت هذا العنوان وهذه الاشعار في جريدة الحياة اللندنية هذا الاسبوع.

قالت: تماما.. والآن اسمعني كما كنت تسمعني في مقاهي جبل قاسيون في ليالي دمشق افيحاء التي أصبحت سرابا؟

قلت: لقد فجر ايلان الكردي ذلك الطفل السوري الذي مات غريقا هو وأمه وأخوه في رحلة الهروب إلي الجنة من جحيم الحرب في سوريا..

تقاطعني: انها ليست حربا.. ولكنها عملية ابادة لشعب بأسره وتمزيقه وتشريده.. وإرسال ما بقي من أهله إلي أوروبا التي فتحت ذراعيها لهم بعد أن ابكتهم صورة هذا الطفل السوري الغريق الذي أيقظ بموته ضمير العالم كله!

قلت لها: هات ما عندك يا شاعرة جبل قسيون؟

................

..................

الشاعرة السورية فدوي قريطم التي تدرس حضارة ما بين النهرين.. بابل وآشور في جامعة فيرجينيا الأمريكية تحكي وتقول وأنا أسمع في القاهرة وأنصت وحدي وأتألم ولا أتكلم لما تقوله

أمي..

هذا اليوم داعبتني الأسماك كثيرا.. وكذلك الأمواج..

كدت اغرق البحر في حبي..

ظنني موج البحر لعبة سقطت من يد طفل غريق..

أودعت لدي الأسماك الحنونة الكثير من الضحكات..

أودعت كل أحلامي.. بكائي وقراطيس غنائي..

وودعت الموت..

عدت من حيث أتت الريح وعاد البحر من حيث يأتي الغروب..

أمي..

أنا شروق الحكاية..

طريح الأمواج والشواطيء.. أدفع بزورق كأنه من ورق الجرائد التي ستكتب عني..

لا تحدثي أخوتي أنني عالق في حلق الكون كلعنة دامية عليه..

سترويني الرمال علي أسماع من بهم صمم..

ولن يرويني ماء البحر..

أمي..

لا توقظيني..

أريد النوم في حضنك أكثر من أي وقت مضي..

لا تقصي عليّ حكايتي.. حكاية شعب غريق.. ووطن حريق غريق

قصي علي حكاية ليلي والذئب..

أبتي..

حتي البحر يا أبتي يلفظنا.. تنسجنا الأقدار جثثا تتقاذفها الحرائق والمياه..

لكن سأكبر يوما..

ولن أنتقم..

ولن أسامح..

سيكبر معي ألمي وأملي..

وسيصغي العالم..

أبتي..

لسوف أكبر يوما..

سأغدو بحارا يقود سفينة

وأنقذ العابرين من هنا..

سأوقد الشموع في قلوب الطغاة.. ولن أسامحهم..

انتظرني قليلا.. كي أكبر قليلا..

ستنتظرني الأسماك التي داعبتني كثيرا..

وكذلك الأمواج..

سينتظرني البحر الذي أتعبته كثيرا..

كي أزرعه زيتونا وقمحا..

لن يسألني: من أين أتيت ولماذا؟

لن يسألني: ما هي أخبار كوباني ودرعا؟

فقط سيهددني كي أخلد للهدوء الأخير.. لأني صرعت سمكة قرش..

اسأل الشاعرة السورية: من قال هذه الأشعار؟

قالت: شاعر اسمه هوشنك أوس

قلت في سري دون صوت: لعله شاعر من الأرمن..

................

.................

مازلنا مع نبضات قلب سوريا الحزينة وأهلها الذين يركبون البحر والموت هربا من شياطين الإنس..

أسأل الشاعرة السورية» وماذا عندك من نبضات شعراء البلد الذي أضنته الحرب ومزقته شياطين الإنس، حتي لم يبق منه إلا قلب ينبض يركب البحر ويغرق أو يلحق نفر منه بالأرض بالسلام والدفء في أرض غريبة وقوم غرباء لكن طيبون كرماء؟

قالت: أسمع نبضات شاعر اسمه مروان علي هو يقول:

تلك السكاكين..

التي تلمع تحت الشمس..

تلك الكنائس الحجرية..

التي تركض خلف الاشوريين

الذين تركوا خلفهم كل شئ وهربوا..

سأحمل صليبي..

الذهبي الصغير..

الذي تركته لي..

جدتي الأرمنية..

وأركض حافيا..

خلفهم..

هؤلاء الأشوريون الشجعان..

هم ملح هذه الأرض الحزينة..

أسألها: وايه كمان ياشاعرة الشام؟

قالت: نفس الشاعر مروان علي.. هو يقول:

لا أحب الثلج والمطر والشتاء

لا أحب المشي تحت ضوء القمر.. لا أحب الموسيقي..

لا أحب الشموع

ولا حتي لوحات فان جوخ..

لا أحب قصائد نزار قباني..

أمضيت عمري..

عمري كله..

في البحث عن الذئاب..

ولم أكن أعرف..

أنني أحيا بينهم..

قلت لها وقد امتلأ كياني كله شجنا وحزنا وألما: وماذا عندك أيضا يا من تعيشين وسط الذئاب؟

قالت: آخر ما عندي لك الليلة.. لنفس الشاعر السوري مروان علي:

أصبحت غريبا في بلادي..

لولا قبور الأصدقاء..

لما وجدت الطريق..

إلي البيت..

سنتقاسم الحرب..

أنت قدمت الأصدقاء

وأمي تبكي عليهم..

هذه هي الحرب..

وهي ليست خدعة..

سنموت جميعا..

في النهاية..

من لم يمت برصاصة..

سيموت من الشوق..

غادرنا البلاد..

بحقائب صغيرة..

لكننا تركنا خلفنا..

أشياء كثيرة..

لكن الذي.. أطلق الرصاص عليَّ..

كان أخي..

أكرر.. كان أخي..

لكنه سيعود إلي رشده يوما..

وسيبكي..

ولن يجد وسادة..

يضع رأسه عليها..

غير شاهد قبري!

قلت لفوري: يا سلام عليك يا عم مروان.

...............

..................

الشاعرة السورية تفتح امامي وامام الدنيا كلها جراح الأيام:

لقد سرقوا مفتاحك يا دمشق..

وتاه أهلك في بحور بلا شطئان.. ولسوف نجد المفتاح..

ونحمل السلاح..

بلا خوف..

بلا تردد..

سوف نفتح أبوابك يا دمشق.. ليعود الصغار إلي حضن الأمهات..{
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف