الأهرام
عادل السيوى
تــــــراب الميـــــــري
في قصة «رحلة سعيدة يا سيدي الرئيس»، يحكي لنا جارسيا مركيز عن لقاء في مستشفي سويسري، بين رئيس مخلوع ومطارد من أمريكا اللاتينية مع
ممرض مهاجرمن نفس البلد، وكان الرجل اللئيم يخطط لبيع جثمان الرئيس كزبون فخيم ،الي شريكه الحانوتي، متصورا ان موته اصبح وشيكا، ولكن الرئيس يتجاوز محنته كعادته، يقول الطاغية المطارد للممرض الفضولي عن تجربته في الحكم «ما حدث هو اننا قمنا باغتصاب شرف لا نستحقه بأن مارسنا مهنة، ولم نكن ندري ماذا نفعل بها، فهناك من يبحثون عن السلطة، ولكن الأغلب يبحثون عما هو أقل، وأقصد الوظيفة» بهذه الكلمات البسيطة يكشف الطاغية عن علة الاستبداد الكبري، الا وهي الخلط بين الوظيفة والسلطة .فالأغلبية تبحث ببساطة عن عمل، عن وظيفة كما قال الرئيس، اما الشرائح النهمة للسيطرة، فإنها تبحث من خلال الوظيفة عن السلطة، لتبدأ منها رحلتها الي الثروة والتميز، هذه هي ثقافة الاستبداد اينما حل، وهي أيضا مرضنا المصري المزمن، والذي جعل المصريين يخضعون لابتزاز أي مسئول، حتي ولو كان سائق الميكروباص، فقيادته للعربة كوظيفة، تمنحه سلطة ما علي الاخرين. اختار المصريون شكل الهرم، لبناء معجزتهم المعمارية الكبري، صرح هائل يجسد ويعكس بأسطحه وخطوطه المائلة أشعة الشمس وهي تتفتح متجهة نحو الأرض كأذرع إله رحيم، ولكن هذا الشكل الهرمي يجسد أيضا طبيعة تجربتنا المصرية، كمجاز صرحي لرسوخ سلطة الدولة وقدرتها علي التحكم في كل التفاصيل، تماما كما تحدد الهندسة المحكمة للهرم وضع كل حجرفيه، لدينا قمة واحدة مميزة، وقاعدة عريضة تتشابه عندها كل الأحجار، وإذا نظرنا الي أي جدارية فرعونية سنلمح نفس التباعد بين القمة والقاعدة، فالفرعون يبدو مفارقا بكتلته الهائلة، منفردا بذاته في وضع التأمل الواثق، كاشفا كامل ملامحه، بينما ينهمك الاخرون من الصغار المتشابهين في العمل وانجاز المهام ، وكأنهم نسخ مكررة.ولكن يبقي لنا أن الدولة هي هدية المصريين للتاريخ الانساني، وهي التي حفظت لمصر وجودها بغض النظر عن طبيعتها.

إن فاتك الميري اتمرغ في ترابه، مثل مصري محفور في الذاكرة، ذاكرة احتياجنا وشعورنا الجماعي بقوة وأمان الدولة وبكرم عطاياها.هذا اليقين لا يقتصرعلي فهم البسطاء وحدهم. فالحكيم المصري القديم داو خيتي، يوجه النصيحة الي ابنه بيبي قائلا انظر، لا توجد مهنة تضارع مهنة رئيس سوي مهنة الكاتب، لأن الكاتب هو معاون الرئيس، فإذا أصبحت كاتبا فسيكون حالك علي أحسن ما يرام، ولن تجبر علي العمل في أي مهنة أخري... ستجاور من بيده الأمر وتصاحب علية القوم، وتظل يدك ناعمة، وترتدي الملابس البيضاء وعندما تنادي سيهرع اليك العشرات يطلبون ودك الكتابة كانت المعبر للصعود، من الأصول الشعبية الي أروقة الصفوة. ولذا برزالكاتب جالس القرفصاء، كإله شعبي صغير، أنه أيقونة الناجين من مصير العامة، وهوالمثقف الذي يصعد مدعوما بسلطة المعرفة. لم يتوقف زحف المصريين نحو الميري، بكل الوانهم، ولم يتوقف بالمثل سعي المثقف المصري للالتحاق بالقمة، يصعد المثقف الي مواقع القرار بقلب مفعم بالامل، متصورا أنه اقوي من الشروط، وأن معارفه الواسعة سوف تنقذه، ولكنه يصبح بعد ذلك أكثرتفهما لآليات العمل داخل المؤسسة، فيقبل بتحفظ ما كان يدينه سابقا، بوصفه ضريبة لابد من دفعها، ثم يبدأ في نسيان مقاصده النبيلة تدريجيا، يزداد جلده سمكا ولمعانا وتنمو وقاحته في الرد علي من ينتقده، ويتكثف حضوره الإعلامي، وتتعاظم بذلك شبكة المنافع، وتضمر فصوص الاخلاق، فيتبجح بأنه ليس السييء الوحيد، وينتهي الامر بالتربح والفساد والافساد معا، مسيرة تعسة، يتم تتويجها بالكراهية، فبعد قدر ما من الشهرة والثروة، يدرك انه قد فقد شيئا ما، لمعة ما كانت في العينين وانطفأت، وهنا نصل الي المنطقة الدرامية، عندما يصبح الموهوب الذي لم يتورط شاهد اثبات لابد من اسكاته. ترشيح الكوادر للانضمام الي سقف الدولاب الميري، يتم في بلدنا بموافقة ما سموه الجهات السيادية، أسياد غير مرئيين، يدركون ما لاندركه، يفترض أنهم يحمون مصالحنا العليا، ولذا يقررون نيابة عنا، تواصل هذه الأجهزة اختيارالمسئولين وتضعهم علي رأس المواقع، وبما أننا ننحدر منذ ما يزيد علي نصف قرن حتي وصلنا الي أسفل الدرك تقريبا، يصبح لدينا سؤال مشروع حول مسئولية هذه الجهات عن بؤسنا في كل المجالات، وكيف سمحت الجهات السيادية بأن تصل فاتورة الفساد، باعتراف الأجهزة الرقابية الرسمية الي مئات المليارات، في بلد تحاصره الديون؟ .

ماذا فعل الميري بنا؟ ومن يتمتع الآن ببريق ذهبه؟ هل سيظل المصريون يتمرغون في ترابه؟ اعتقد أن الأمور لن تستقيم طويلاعلي هذا النحو، فالفساد الشرس وتدليل الدولة لفئات علي حساب فئات أخري، وكثرة الوعود، وتطلع البسطاء الي تغيير ملموس، سيخلق أرضية لاحتجاجات ومطالبات،لا نعرف سقفا لها، لقد بدأ الخوف يجد طريقه الي قلوب الكثيرين، الخوف علي الدولة، لا من مؤامرت الخارج ولا من أعداء الداخل فقط، ولكن من الطريقة التي تدير بها أجهزة الدولة نفسها مهامها، وخاصة أن صناع القرار مازالوا يضيقون بالمشاركة، ويستكثرون علي الشعب حق المعرفة، ورغم هذه المخاوف الحقيقية والملحة، والتي يجب أن نتكاتف معا لتجاوزها، يواصل الميري حياته كما هو، وكأنه قد أدمن ترهله وفساده. ولذا تتوالي حلقات المسلسل ، يتكرر صعود الفاسدين ثم تفاجئنا الأجهزة نفسها، بأنهم لصوص ومرتشون،وكأننا علي مقاعد المتفرجين نتابع فاصلا مملا من كوميديا بائسة لم تعد تضحك أحدا.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف