جمال عبد الجواد
فى تحرير الجدل حول الدستور
ما إن صدر عن الرئيس السيسى التصريح المثير للجدل بشأن الدستور المكتوب بحسن نية إلا وانفتح باب واسع للجدل حول الموضوع. حذف تصريح الرئيس حول الدستور من التسجيل المتلفز لم يضع حداً للجدل. حذف الجزء المتعلق بالدستور من تصريحات «السيسى» يشير إلى أن الرئيس تفاجأ برد الفعل على تصريحاته ولكنه لا يلغى ما كشفه التصريح عن مشاعر الرئيس تجاه الدستور ورأيه فيه، ولهذا توالت ردود الفعل واستمر الجدل.
الدستور فى مصر كان محوراً وموضوعاً للصراع السياسى طوال أغلب فترات تاريخنا الحديث. الاستقلال والدستور كان هو الشعار الذى لخص كفاح حزب الوفد طوال أغلب السنوات التى احتل فيها الحزب المكانة المرموقة فى السياسة المصرية قبل عام 1952. العبث بالدستور كان من بين العوامل التى يقول لنا المؤرخون إنها ساهمت فى سقوط النظام الملكى. فى تاريخنا الأقرب كان الدستور موضوعاً للصراع بين «مبارك» ومعارضيه، مرات بسبب التعسف فى تفسير الدستور ومرات أخرى بسبب المطالبة بتعديله. حصل «مبارك» على ما أراده عندما تم تعديل مواد عديدة فى الدستور فى عام 2007 لكن نظامه لم يعش طويلاً بعد ذلك، فليس بالدساتير وحدها تبقى الأنظمة.
الجدل المتواصل حول الدستور علامة على أن الأمة لم تنجح بعد فى وضع قواعد نظام سياسى متفق عليه. الدساتير التى يتم كتابتها وتفسيرها وتطبيقها وفقاً لقواعد المغالبة لا تضمن استقراراً ولا تعيش طويلاً، فموازين القوى دائمة التغير. الدساتير المكتوبة للتعامل مع الاعتبارات التى تفرضها لحظة سياسية محددة معيوبة، فالسياسة متقلبة، وعلى الدستور أن يكون فيه من السعة والإحكام ما يسمح باستيعاب تغيرات السياسة دون تعريض قواعد النظام السياسى للاهتزاز.
الرئيس السيسى له ملاحظاته على الدستور ولكننا لا نعرف بالضبط أى مواد الدستور يراها الرئيس جديرة بالتعديل، هل هى المواد المتعلقة بالحريات والحقوق، أم أنها المواد المتعلقة بطريقة انتخاب مجلس النواب، أم المواد المتعلقة بسلطات رئيس الجمهورية فى علاقتها بسلطات مجلس النواب، أو أنها المواد المتعلقة بقصر مدة الرئاسة على فترتين كحد أقصى؟ الدستور موضوع حساس ليس من المستحسن فتحه للنقاش كثيراً، أما إذا اخترنا أن نفعل ذلك فلنقم به بطريقة محددة ومنضبطة وليس بطريقة إطلاق التصريحات المعممة حمالة الأوجه، ففى غياب التحديد انفتح الباب لجدل فيه من الغموض والتشوش أكثر مما فيه من المنافع.
اجتهد المتطوعون للدخول فى جدل تعديل الدستور فاتفق أغلبهم على أن مواد الدستور المتعلقة بتشكيل الحكومة هى موضع اعتراض الرئيس، وهى المواد التى تلزم الرئيس بتكليف الحزب صاحب الأغلبية فى البرلمان بتشكيل الحكومة إذا أخفقت الحكومة التى يشكلها الرئيس فى الفوز بثقة المجلس. أنصار التعديل يقولون بأن تشكيل الحكومة يجب أن يظل من صلاحيات الرئيس لأن أحزاباً شريرة غير مرغوب فيها قد تحصل على الأكثرية فى مجلس النواب. العوار الواضح فى هذه الحجة له مصادر عدة. فمن الناحية الواقعية تعانى أحزابنا من تهافت مؤسف لا يؤهل أياً منها للفوز بنسبة يعتد بها من مقاعد البرلمان المقبل. أحزابنا ما زال أمامها طريق طويل، والأرجح أن البرلمان المقبل وعدة برلمانات مقبلة بعده ستكون تحت سيطرة النواب المستقلين، ومن ثم فإن التخوف من استئثار أى حزب بأغلبية تمكنه من إفشال حكومة يشكلها الرئيس واستبدالها بحكومة حزبية يعكس نوعاً من الخيال الجامح. أخطر ما فى هذه الحجة هو ما تنطوى عليه من تحذير من سيطرة أحزاب بعينها على مجلس النواب، ومن ثم استئثارها بتشكيل الحكومة، وهى نفس الحجة التى لو مددناها على استقامتها لتخيلنا أصحابها يطالبون بإلغاء انتخاب رئيس الجمهورية لأن بعض أصحاب الهوى الأيديولوجى قد ينجحون فى الفوز بالمنصب الرفيع.
فى الدستور نصوص قلقة ومقلقة، لكن الحجج التى يتم تسويقها لتسويغ تعديلها ليست صحيحة أو ملائمة. النص الدستورى المتعلق بتشكيل الحكومة يتسم بالتردد وعدم الحسم، فهو يصنع لنا نظاماً رئاسياً يظل قائماً طالما كان الرئيس قادراً على تشكيل حكومة تحظى بثقة مجلس النواب، ولكنه ينتقل بنا إلى النظام البرلمانى إذا فشلت حكومة الرئيس فى الفوز بثقة المجلس، وهى صيغة فريدة وعجيبة تجعل من النظام البرلمانى عقاباً للرئيس على فشله دون النظر فى جدوى وصلاحية أى من النظامين لظروف بلادنا. أخطر ما فى التردد بين النظامين الرئاسى والبرلمانى هو ما ينطوى عليه من تحريض لرئيس الجمهورية للتدخل فى الانتخابات البرلمانية والحياة الحزبية بما لا يسمح بظهور أحزاب سياسية قوية خوفاً من قيامها بمنازعة الرئيس صلاحياته، وأظن، وبعض الظن إثم، أن التردد بين النظامين الرئاسى والجمهورى فى دستورنا الحالى كان من بين الأسباب التى دفعت الحكومة والرئيس للتمسك بالنظام الحالى لانتخابات مجلس النواب، وهو النظام الذى لا يؤدى سوى إلى إضعاف الأحزاب السياسية وتفككها.
شخصياً أفضل النظام الرئاسى مثلما هو الحال فى النظام الأمريكى وليس على طريقة دستور 1971. فالنظام الرئاسى هو أفضل نظام يحقق الفصل الكامل بين السلطات ويضمن لكل سلطة استقلالاً كافياً فى علاقتها بالسلطات الأخرى. ومع هذا فإننى أفضل الإبقاء على الدستور الحالى كما هو كرسالة ثقة وطمأنة للداخل والخارج، وأن يتم تأجيل أى حديث فى تعديل الدستور لحين تحقق الاستقرار وترسيخ المصداقية، فحساسية الظرف وهشاشة وضعنا السياسى تجعل من دستور مستقر فيه عوار أقل خطراً من دساتير تتم كتابتها فى عجالة للتعامل مع ظروف طارئة ومخاوف غير مبررة يستخدم لتسويغها حجج متهافتة.