أعتقد أنه قد آن الأوان.. بعد ثورتين شعبيتين وبعد 60 سنة من صدور قانون الإصلاح الزراعي في سبتمبر 1952 أن نتطلع لأوضاع الزراعة في بلدنا.. والأحوال التي آلت إليها أربعة آلاف قرية.. بعيون جيدة.. تواكب الآن وتأخذ في الاعتبار العوامل الاقتصادية التي أدت للقضاء علي مهنة الزراعة.. وتشتت الفلاحين في ربوع العالم للبحث عن عمل وعن رزق.
ليس من المعقول ولا من المقبول أن نستأنف التعامل مع الأوضاع في ريف مصر.. ومع الغالبية العظمي من سكان الوطن الذي ننتمي إليه بالأساليب والسياسات.. والمناورات التي سارت عليها الأمور لمدة 60 سنة.. بلا توقف.. ولا مراجعة.. ولا بأي إحساس بتأنيب الضمير.
60 سنة تغيرت فيها خريطة العالم.. ولكننا لم نتغير.. ولم نحاول أن نتغير.. أو علي الأقل أن نتلفت من حولنا.. ومتابعة ما يجري من تجريف لأقدم حرفة عرفها الإنسان المصري القديم.. ولم يخطر ببالنا بحث التداعيات السلبية التي أثرت علي حياة أجيال الفلاحين.. جيلا بعد جيل.. إلي أن وصلنا الآن إلي الجيل السادس الذي يبحث عن الهجرة غير الشرعية.. فيقع فريسة لأسماك البحر.. وذئاب البر.
الجيل السادس من الفلاحين.. لم يعد له مكان في وطنه.. ولا في قريته.. بعد أن اختفت الحرفة التي انتقلت إليه عبر آلاف السنين.. واختفت الأرض الزراعية.. ومعها تقاليد وأخلاق.. القرية.. ولم يعد أمامه سوي طريق واحد.. يواجه فيه كل ألوان الذل والهوان وأسر الرق والعبودية.. وهو يبحث عن عمل في خدمة سكان المدن.. في الداخل والخارج.
وتعود هذه المعضلة لسبب واحد.. وهو اننا لا نعرف سياسة المتابعة.. والمراقبة.. والمراجعة والتصحيح.. وبالتالي فإن مشاكلنا تتفاقم بمرور الوقت.. الذي يصل إلي 60 سنة.. وتصبح مستعصية الحلول.. وغير قابلة لأي علاج.
فمن اللافت للانتباه في القضية التي نتناولها.. ان حكامنا وزعوا الأرض الزراعية بمساحة خمسة أفدنة لكل فلاح.. وانطلقت الأغاني في مكبرات الصوت.. ومعها المقالات والافتتاحيات التي تشيد بالعبقرية السياسية.. دون أن نفكر ولو للحظة واحدة. في متابعة العائد الاقتصادي لهذه الأراضي التي تم توزيعها.. ولم نفكر ولو لثانية واحدة.. في قدرة الفلاح البسيط علي إنتاج المحاصيل بمعدلاتها السابقة.. ولم نفكر علي الإطلاق في مستقبل هذه الفدادين الخمسة عند التوريث.. ولا مراقبة مدي قانونية استخدام الفلاح لهذه الأرض التي يملكها في إقامة مساكن للأبناء والأحفاد.. وتحول هذه الأرض من أرض زراعية إلي قري جديدة تتكدس كل ساعة بالسكان الجدد.. الذين يحتاجون إلي مياه نقية وصرف صحي ووحدات صحية.. الخ.
والمثير في الموضوع.. ان التناقص المستمر في إنتاجنا المحلي من الحبوب واللحوم. لم يلفت نظر حكامنا أو يشغل بالهم بأسباب هذا التدهور.. والبحث عن حلول بعد استعراض المشاكل والعقبات.. وهداهم تفكيرهم إلي الحل.. وهو استيراد القمح من الخارج.. ثم استيراد اللحوم.. ثم استيراد الأثاث.. ثم.. ثم.. حتي وصلنا إلي فوانيس رمضان التي نستوردها بكل جرأة من الصين.
وبات استيراد المواد الزراعية من السمات السياسية لحكامنا.. وكلما حاولوا حل أي مشكلة للحد من الاستيراد.. ازدادت علي أيديهم العبقرية.. تعقيدا.. وانضمت إلي إنجازاتهم المبهرة من المصائب.. قبل أن ينكشف الحال عن قلة الحيلة والضعف الذهني.. والغباء التراكمي.
هذه الحالة استمرت لسنوات طويلة تصل إلي أكثر من 60 سنة.. وبدأنا نفقد ثلاثة أفدنة من الأرض الزراعية الخصبة كل ساعة.. وفقا لبيانات منظمة الأغذية والزراعة.. وكلما حان موعد الاحتفال بعيد الفلاحين.. خرجت المواويل.. ومقالات عبدة الأوثان.. تردد كل كلمة ترددت في السنة السابقة.. ومنذ 60 سنة.
الآن نحن نمر بمرحلة جديدة في تاريخنا المعاصر.. وبدأنا بالفعل في اتخاذ خطوات التقارب مع القوي العظمي الاقتصادية الصاعدة في العالم.. الأمر الذي يدعونا لمراجعة وتصويب السياسات التي فرضت واقعها طوال الـ 60 سنة الماضية.. وحان الوقت لوضعها علي الطريق الصحيح.. وفقا لمقتضيات العصر.. وفي مقدمتها السياسة الزراعية.
وإذا كنا بصدد استصلاح مليون ونصف المليون من الفدادين.. فعلينا أن نأخذ تجارب الدول الراقية في الاعتبار.. وهي الدول التي لم تترك الأرض سداح مداح.. وإنما قامت بوضع خارطة للمساحة المخصصة لكل محصول.. ولا يجوز للمالك تحويلها من أرض مخصصة لزراعة القمح إلي أرض مخصصة لزراعة الذرة.. علي سبيل المثال.
هذه الخريطة الزراعية التي تعدها الدولة.. لا تسمح بالاستثناءات والمحسوبيات والقرارات العليا.. لسبب بسيط هو أن اختيار هذه المساحة لمحصول معين.. يخضع لدراسات علمية حول طبيعة الأرض.. ومزاياها النسبية في إنتاج هذا المحصول الذي يفوق إنتاجه غيره من المحاصيل.
وبالتالي فليس من المتصور في الدول الراقية أن تتحول الأراضي المستصلحة إلي منتجعات تتوسطها حمامات السباحة.. أو زراعة محصول فوق أرض مخصصة لزراعة محصول آخر.. علاوة علي أن جميع الأراضي في هذه الدول تتبع جهة واحدة.. هي المسئولة عن الأراضي واستخداماتها.. إلخ.. وبالتالي فلا توجد وزارة أو هيئة.. أو منظمة.. لها سلطة التصرف في أراضي الدولة.
ولذلك يبدو من العجيب.. علي سبيل المثال.. أن في بلدنا إحدي عشرة وزارة تمتلك أراضي وتستطيع التصرف فيها.. بالبيع.. علي نحو سلطة الإدارة الاقتصادية في مبني ماسبيرو.. في بيع تراثنا الفني من أفلام وحفلات أم كلثوم.. لفضائية روتانا.
المهم.. الآن ونحن بصدد الاحتفال بعيد الفلاحين.. في ظل حكومة جديدة.. تضم مجموعة جديدة من الوزراء.. في مقدمتهم وزير زراعة معروف بالنزاهة والكفاءة.. ان نعيد النظر في السياسات التي استمرت لأكثر من 60 سنة.. بلا مواكبة للزمن.. ولا تصحيح للمسار.. وفقا للجملة المأثورة: «مش عايزين وجع دماغ!»
هذا الزمن انتهي.. ونحن الآن علي أبواب عصر جديد.. عصر بناء وإبداع وتعمير.. وتصبح فيه الفلاحة للجميع!