شعبان يوسف
عباس العقاد ناقدا تشكيليا
عباس محمود العقاد الذى أسّس مع رفيقه إبراهيم عبد القادر المازنى مدرسة الديوان، وشنّ هجوما عنيفا على الشاعر أحمد شوقى، وجرده من شاعريته وأصالته، وأحدث حراكا ثقافيا وفكريا ظل يعمل فى مصر والأقطار العربية لزمن طويل، لم يتوقف عند هذه الصفة، أى صفة ناقد الشعر أو الأدب، بل إنه كان يكتب فى مجالات شتى، مثل المجالات الاجتماعية والسياسية والفلسفية، وكانت حياته سلسلة من المعارك السياسية والفكرية والثقافية التى ملأ بها حياتنا على مدى عقود طويلة، وكان اسمه دائما مقرونا بالعملاق والجبار، وكل الصفات التى توحى بالقوة والانتصار.
ورغم هذه الصفات التى يعلقها الناس دائما كلافتة تشير إلى العقاد، فإنه كان يضع لافتات أخرى غير التى يضعها الناس، بل كان يندهش ويستغرب أحيانا من وصف الناس له بصفات لا يعرفها فى نفسه، فهو يتحدث عن نفسه فى كتابه أنا قائلًا: ويل التاريخ من المؤرخين لأن الناس لا يعرفون من يعيش بينهم فى قيد الحياة ومن يسمعهم ويكتب لهم ويقرؤونه.. فعباس العقاد هو فى رأى بعض الناس مع اختلاف التعبير وحسن النيّة، هو رجل مفرط فى الكبرياء.. ورجل مفرط القسوة والجفاء.. ورجل يعيش بين الكتب، ولا يباشر الحياة كما يباشرها سائر الناس.. ورجل يملكه سلطان المنطق والتفكير ولا سلطان للقلب ولا للعاطفة فيه، ورجل يصبح ويمسى فى الجد الصارم فلا تفتر شفتاه بضحكة واحدة إلا بعد استغفار واغتصاب .
هكذا كان يتصور الناس العقاد ويصورونه، وهكذا كان يرى الناس العقاد، وكان العقاد يشكو من هذا التصور، وينفيه، ويقول بأن الناس لا تعرفه، ولا تفهمه جيدا، ويقسم فى كتابه هذا قائلًا: وأقسم بكل ما يقسم به الرجل الشريف أن عباس العقاد هذا رجل لا أعرفه ولا رأيته ولا عشت معه لحظة واحدة ولا التقيت به فى طريق، ونقيض ذلك هو الأقرب، نقيض ذلك هو رجل مفرط فى التواضع، ورجل مفرط فى الرحمة واللين، ورجل لا يعيش بين الكتب إلا لأنه يباشر الحياة، رجل لا يفلت لحظة واحدة من ليله ونهاره من سلطان القلب والعاطفة ورجل وسع شدقاه من الضحك ما يملأ مسرحا من مسارح الفكاهة فى روايات شارلى شابلن جميعا .
وهكذا يقدم العقاد نفسه، بعدما كان ينفى الصور العديدة التى كان يرسمها الناس له، هذه الصور التى كانت تبعث الرهبة فى قلوب قارئيه، وربما تكرّس لكراهية ما، أو لنفور منه، ويسترسل العقاد مقدما نفسه عبر حياته المديدة، من أواخر القرن التاسع عشر، حتى اللحظة التى كان يكتب فيها كتابه هذا، ويتطرق إلى طفولته وصباه وتعليمه، وحياته فى مدينته أسوان، ثم نزوحه إلى القاهرة، ويعرّج على قراءاته الأولى، ثم يتحدث بإجلال عن أساتذته، وبعد رحلة طويلة وممتعة مع سيرته الذاتية المهجورة -إلى حد كبير- من قارئيه ودارسيه، الذين ركزوا على كتاباته الإسلامية، واختصروه فى العبقريات، وقررت الحكومات المتعاقبة ووزارات التعليم المتتالية، كتاباته الإسلامية على المدارس، دون التفكير مرة واحدة فى وضع هذا الكتاب الإنسانى كمادة دراسية فى أحد الصفوف الدراسية، لأنه يقدم صورة إنسانية ومتكاملة عنه، نحتاج إليها كثيرا، وتبرز بعض الوجوه الغائبة عن العقاد فى وجدان الناس، أو فى الدرس النقدى الذى يتناول حياة العقاد وإنتاجه الأدبى والثقافى والفكرى والسياسى.
ومن بين الوجوه الغائبة عن العقاد، جانب النقد السينمائى على سبيل المثال، رغم أننا من الطبيعى أننا سنختلف معه فى وجهات نظره، فإننا لا بد أن نتعرف على ذوقه فى السينما وتوجهاته، أما الجانب الذى يغيب تماما عن صورة العقاد التى يرسمها الناس، فهى صورة الناقد التشكيلى، والتى كانت تظهر بين الحين والآخر.
وفى 11 فبراير عام 1927، كتب العقاد مقالًا لصحيفة البلاغ الأسبوعية عنوانه صورة ، ويبدأ مقاله هذا بمخاطبة القارئ مباشرة عن كيفية قراءته للوحة التشكيلية، والفرق بينها وبين الصورة الفوتوغرافية، ومساحات الخيال التى يتمتع بها الفنان، ويلقى على اللوحة قدرا من شخصيته الهادئة أو المتوترة، والمبتهجة أو المكتئبة، ويبرز دور الخيال فى إنشاء لوحة جيدة وعميقة، وقد تكون لتقلب النفوس المختلفة عند الفنانين أدوار متباينة فى إنشاء لوحاتهم وصورهم الملونة.
وفى هذا المقال يتحدث عن إحدى لوحات الفنان المصرى محمد حسن، والتى كانت ترقد بين مقتنيات متحف المصور شعبان زكى، بضاحية المطرية، وكان محمد حسن آنذاك يدرس التصوير فى إيطاليا، وهو أحد مفاخرنا الفنية المصرية العظيمة، ويكاد يكون اسمه قد غاب تماما عن تناول النقاد التشكيليين المعاصرين، فما بالنا بأن يكون فى ذاكرة المثقف الأدبى أو الفنى بشكل عام.
واللوحة التى يتحدث عنها العقاد، هى صورة لفتاة حزينة، تقف على قبر صديق فقيد، ويتناول العقاد فى البداية مداخل إعجابه الأولية للوحة، وهى ذاتها المداخل الفنية التى تحكم ذوق العقاد عموما، ويكتب فى هذا الشأن كلاما فى غاية البلاغة قائلا: فرأينا ثَم آية من آيات التصوير تقل مثيلاتها بين آيات الأساتذة المبرزين فى ذلك الفن الجليل، وشعرنا أن للصور هواتف وأرواحا تجتذب إليها العاطفين والمعجبين على نأى المسافة وتفرق الهموم، وكأن هذه الصورة هى التى استدعتنا لنؤم مكانها ونشهد قصتها ونقضى لها حقوق تحيتها .
ويستفيض العقاد فى مقاله الوصفى والتحليلى فى تقليب اللوحة على عدة وجوه، مما يكشف عن وجه غائب تماما من وجوه العقاد، هذه الوجوه التى اختصرت كما أسلفنا فى الجبروت والقوة وأشكال العدوان المشهورة عن العقاد، لذلك فنحن نحتاج إلى قراءة العقاد قراءة جديدة منصفة وشاملة.