الوطن
محمد صلاح البدرى
أنا عاجب ربنا..!
لم تكن رغبتى الشخصية فى الأساس.. إنه إصرار عجيب هذا الذى حلّ بأبى رحمه الله على أن أسافر فى ذلك العام لتأدية فريضة الحج..! لم أكن أعرف أن الله سيتوفاه قبل أن أسافر.. ليكسب ثواب حجتى وهو بين يديه!!

لم تكن الرحلة مريحة بالقدر الذى يرضينى، ولكنها كانت محتملة بالطبع إذا ما قارنتها برحلات أخرى للحج.. فضلاً عن أننى ما زلت شاباً صغيراً.. فقط كان زى الإحرام هو ما يضايقنى قليلاً.. فلم أعتد أن أرتدى ما يمكن أن يسقط فى أى لحظة من حول خصرى النحيل.. وربما كان هذا هو السبب الأساسى فى أن قررت أن أعتمر فور وصولى إلى مكة، فقط لأتمكن من ارتداء ملابسى العادية التى افتقدتها..!

كان الوقت صباحاً، والصحن يمتلئ بالطائفين من كل الجنسيات.. لقد أخبرونى بأننى سأبكى لحظة رؤيتى للكعبة لأول مرة.. لا أنكر أن رهبة قد أصابتنى لوهلة.. ولكننى لم أبك، وهو ما أصابنى بضيق شديد.. لا بد أننى أحمل قلباً يفيض بالذنوب! رحماك يا إلهى..!

لم يكن الطواف هيّناً.. فالحر شديد والشمس حارقة.. والعديد من الطائفين يدفعونك لتسير بالدفع الذاتى.. ربما طالك كوع من أحدهم بغير قصد هنا أو هناك.. المهم أننى أنجزته.. ثم توجهت إلى المسعى لاستكمال المشاعر.. وهناك فى الطريق قابلته.. لقد تعثرت فى قدمه الممتدة أمامه وهو جالس على إحدى درجات السلم الذى كان يفضى إلى صحن الحرم.. هذا قبل أن تقضى عليه عمليات التوسعة.. سمين صبوح أبيض هو.. يحمل نوراً فى وجهه لا أعرف له سبباً.. يزداد النور إشعاعاً كلما ابتسم.. ينظر إلىّ وكأنه يعرفنى من قبل.. لا أنكر أن وجهه ليس غريباً.. ولكننى فشلت فى تذكر متى رأيته.. لقد ابتسم بعد أن وقعت أمامه.. وبدلاً من أن يعتذر فوجئت به يسألنى فى تشفٍّ واضح: مضايقينك؟؟!

لم يكن السؤال مفهوماً لى.. ولكننى أدركت سريعاً أنه يسأل عن حالى فى الطواف الذى كان صعباً.. وأنه تجاهل تماماً وقوعى أمامه الآن بسبب قدمه الممتدة.. رددت عليه وأنا أحاول أن أبدو متماسكاً: الحمد لله على كل حال يا حاج.. ولكن الناس يتدافعون بشكل غير مقبول فى بيت الله! اتسعت ابتسامته وهو يكرر نفس السؤال مرة أخرى: مضايقينك؟!

لم ألحظ للوهلة الأولى أنه يتحدث العامية المصرية.. إنه مصرى إذن.. ولكننى تعجبت من إصراره على السؤال.. نظرت إليه فى هدوء ثم أجبته: طبعاً.. ما هو الكلام ده مايرضيش ربنا..!

اعتدل فى جلسته وهو يزيد ابتسامته اتساعاً.. ثم اقترب من وجهى وهو يقول: هما مش عاجبينك.. أنا عارف.. بس تصدق بقى.. عاجبينه هوّ..!

لم أستوعب مقصده جيداً.. من الذى يعجبه هذا.. نظرت إليه، وبعيون متسائلة دون أن أنطق طلبت منه أن يكمل لأفهم هذا الغموض.

عاد بظهره إلى الوراء ثانية، ثم استطرد: طبعاً عاجبينه هوه.. كلنا عاجبين ربنا.. وإلا ماكانش جابنا هنا لحد بيته.. إنت نفسك عاجب ربنا.. حتى لو مش واخد بالك.. إوعى تفتكر إنك تقدر تيجى هنا من غير إذنه.. مهما كان معاك فلوس.. ده بيته واحنا ضيوفه.. حد بيستقبل فى بيته حد مش عاجبه؟!

كان الأمر أكبر من أن أحتمل.. كانت الكلمة كبيرة على استيعابى.. «أنا عاجب ربنا»، لقد أعجبتنى جداً هذه الكلمة.. إنه شعور عجيب بالفخر الممتزج بالامتنان أن أصل إلى هذه الدرجة..! جلست بجانبه وأنا أنظر إلى الكعبة غير مستوعب ما يحدث.. دقائق مرت لا أعرف عددها وأنا أتأمل فيها.. لا أدرى ما الذى يتغير داخلى.. لا أشعر بالتعب.. ولكننى فخور بنفسى.. إنه شعور الطفل الذى يصفق بيديه فرحاً إذا ما قال له أحد الكبار إنه «شاطر»..

أنا عاجب ربنا.. أنا عاجب ربنا..

لقد بكيت يومها كما لم أبك من قبل.. ربما كما لم يبك أحد من قبل.. ولكنه لم يكن بكاء الندم أو الحسرة.. وإنما امتنان وشكر..

لم أقابل هذا الشيخ الطيب ثانية.. وربما لا تصدقنى إذا ما أخبرتك أننى لم أعرف اسمه.. ولم أحاول فى الحقيقة..!

فقط لا أخفيكم أننى ما زلت أبحث عنه بعينى كلما ذهبت إلى الحرم بعدها!!

لقد غسلنى هذا الشيخ بكلمة واحدة.. فتحولت بعدها إلى شخص جديد.. شخص «عاجب ربنا».

اللهم اكتبها لكل مسلم يا رب..!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف