فازت برحلة حج منذ أيام زوجة سائق الباص الذى كان يقل السياح المكسيكيين، والذى قتل معهم بطريق الخطأ.. وقد التقت بها إحدى القنوات الفضائية، فإذا بالسيدة تجهش بالبكاء وتقول فى تلقائية رائعة: «كنت أتمنى العمرة فأكرمنى الله بالحج.. أنا لا أريد الآن شيئاً من الدنيا.. وأتمنى أن أموت هناك عند النبى صلى الله عليه وسلم».
تأملت حديث السيدة البسيطة التلقائى الذى لا يعرف «اللوع» أو «المكر» أو «الكذب» أو «الدهاء» أو «النفاق»، الذى ملأ دنيا السياسة والساسة وكاد يفتك بالعوام لولا لطف الله بهم.
قلت لنفسى: هذا هو تدين الفطرة السليمة.. تدين العوام دون أدلجة أو طنطنة أو حنجورية.. إنه الصدق بعينه.. لقد كررت السيدة للمذيعة أنها تريد أن تموت إلى جوار النبى والصحابة.. والمذيعة تقول لها: فى البقيع.. والسيدة تصدق على الأمر مرات ومرات.. حتى قلت إنها تقرع هذا الباب ولعلها تبلغه كما كانت ترجو العمرة فرزقها الله بالحج.
لقد شغلها «النبى والصحابة» عن زوجها المتوفى.. لقد ذكرتنى هذه المرأة بـ«أم بكار» التى جاوزت الـ109 سنوات وهى تبيع البيض والثوم والجبن لتنفق على نفسها بعد أن ربت أولادها جميعاً وحدها بعد طلاقها دون أن ينفق على أولادها.
لقد كررت مراراً وتكراراً «يا رب نولهالى» وهى تقصد حج بيت الله الحرام.. فهذه المرأة البسيطة يحدوها الشوق إلى الكعبة وإلى زيارة الحرمين الشريفين.
لقد ذكرتنى هذه القصص بـ«عم مالك» رحمه الله.. وهو من أقارب والدى ومن إحدى القرى المجاورة لمدينتنا.. وكنا نحبه ويحبنا ونبيت عنده إذا ذهبنا لقرية والدى وجدتى ونحن صغار.. فقد كان من الصالحين وكذلك زوجته.. كنت وقتها فى الدراسة الإعدادية.. وكان عمى «مالك» يتوق للحج ويشتاق إليه.. وكان يشترى جاموسة صغيرة فى أول العام بنية الحج وعند موعد تقديم الأوراق لقرعة الحج يبيعها ويأتى بثمنها ومعه الأوراق ليبيت عندنا لنكتب له طلبات الحج مع أشقائى الكبار ونذهب معه لتقديم الأوراق.
وفى إحدى المرات رجع حزيناً فسألناه عن ذلك قال: لم أفز بالقرعة.. وسوف أسترد النقود وأشترى جاموسة جديدة وأربيها ثم أبيعها فى الموسم المقبل.. وظل عم «مالك» يكرر هذا الأمر عدة مرات حتى فاز بالقرعة وذهب إلى حيث يتوق ويشتاق.. حيث يلامس أرض النبوة.
لقد ظلت حكاية «عم مالك» عالقة بنفسى حتى اليوم، فرغم بساطتها إلا أنها تدل على معنى عظيم من معانى الزهد والتصوف والإيمان ألا وهو «الإلحاح على الله».. لأن الإلحاح كله سيئ.. إلا الإلحاح على الله فهو محمود.
وقد كان أحد السلف من الزهاد والعابدين والعلماء الربانيين يقول فى دروسه: من أدمن قرع الباب أوشك أن يفتح له.. فسمعته الزاهدة رابعة العدوية فاستدركت عليه قائلة «ويحك.. ومتى أغلق حتى يفتح».
نعم باب الله لا يغلق أبداً.. ولكنه سبحانه يؤخر الإجابة عن عبده المؤمن لعلل كثيرة منها: -
1- أنه سبحانه يحب سماع دعاء عبده وإلحاحه وتوسله وسجوده وتضرعه بين يديه.
2- والعبد الصالح يحب أن يناجى ربه ويسأله سبحانه ليس حباً فى قضاء حاجته، ولكن حباً فى مناجاته.. كالصحابة الذين كانوا يسألون ربهم فى شسع نعلهم.. فلم يكن سؤالهم اهتماماً أو التفاتاً لشسع نعلهم، ولكن حباً فى الأنس بربهم ومناجاته والتحدث إليه والتلذذ بقربه.. كالمعشوق الذى يحب التحدث إلى معشوقه ولله المثل الأعلى.
زرت إندونيسيا وتحدثت إلى الكثير من علمائها الكبار وعلمت هناك أن رحلة الحج مكلفة جداً لبعد المسافة، فقال لى بعض العلماء: إن الفلاح الإندونيسى يدعو الله أن يرزقه الحج وهو يزرع شتلات الأرز فى الأرض.. ويظل طوال حياته يدبر مبلغ الحج حتى يصل إليه بعد أن يبلغ به الكبر عتياً.
إن رحلة الحج لا تؤثر فقط فى العوام ولكنها تؤثر فى الخواص، فهذا د. طه حسين الذى يرى الكثيرون أن رحلة الحج كانت فارقة فى حياته بين كتابات مثل «الشعر الجاهلى» والإعجاب بالعلمانية، وبين فترة العودة من جديد إلى الله.. والانتقال إلى «على هامش السيرة» و«الشيخان» و«الوعد الحق».
لقد أخذ د. طه حسين التراب عند الحديبية وقبَّله، فلما سئل عن ذلك، قال: لعل الرسول صلى الله عليه وسلم قد وطئ هذا التراب.. وسئل هناك عن أعظم شخصية فى التاريخ فقال: الرسول صلى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب.. ولما سألوه عن أحب مؤلفاته إليه قال: لا أحب شيئاً منها.
هناك عند الكعبة تذرف العبرات.. وتنطلق صيحات التوبة والأوبة والاستغفار.. لا يشعر الملياردير بثرائه.. ولا الملك بملكه.. ولا الوزير بجاهه.. ولا الفقير بفقره.. ولا المحروم بحرمانه.. ولا الأرملة بمحنتها.. هناك يزول الكبر والإعجاب بالنفس والدوران حولها والغرور والغفلة والألم والشعور بالمرض.. فأنت هناك مع الله.. ومع الله وحده.. وأنت تنسى «ما سوى الله».. وتحقق معنى الإيمان الحق فى أن تعيش مع الحق سبحانه بغير خلق «أى بشر».. وتعيش مع النفس بالمراقبة والمحاسبة.