محمد السيد عيد
تململ الثعبان الأقرع الجبار، وبدا في عينيه الإحمرار، ونط منهما الشرار
قال ابن العز الحداد، الذي أضر بالبلاد، وأكثر فيها الفساد، إنه كان ذات يوم، بين اليقظة والنوم، إذ دخل عليه ملك الموت بشكله الغريب، وبجواره الثعبان الأقرع العجيب، وخلفه زبانية غلاظ شداد، منظرهم يذيب الجماد. فلما رآهم تماسك، وقال لعزرائيل : ياملك الموت وحياة راسك،أخبرني لم جئت معك بهذا الأقرع،وهؤلاء الزبانية بشكلهم المفزع ؟ قال عزرائيل : جاءوا ليأخذوك إلي جهنم وبئس المصير، جزاء ما فعلت بالناس دون ضمير. فصاح ابن العز بصوت جهير: هذا كلام بغير دليل.
اندهش ملك الموت وجحظت عيناه، ولم يصدق ما سمعت أذناه.وقال ابن العز ما فحواه : اعلم يا قابض أرواح العباد أن الدنيا محتاجة إلي الفساد، ولاتسير دونه أحوال البلاد، ولولا وجوده لأغلقت وزارات، وأقفلت كليات، وكثرت البطالة، وتعطلت العمالة، فكيف بعد هذا تريد أن تدخلني النار. وهل يرضي بهذا العزيز الجبار ؟
وقف عزرائيل وصحبه صامتين، فأكمل ابن العز كلامه المتين: هل نشأت وزارة العدل إلا لتعاقب الفاسدين ؟ وهل كانت النيابة ستُوجد إذا لم تجد من تحقق معه من المدلسين والمزورين ؟ وهل كانت المحاكم ستفتح لولا المرتشين والمختلسين ؟ وهل كانت كلية الحقوق ستظهر للوجود لولا ضرورة الدفاع عن النصابين والمحتالين ؟ إن الفساد هو المسؤول عن إيجاد هذه المؤسسات العظيمة، ولولاه لكان العاملون فيها عاطلين بلا قيمة. ثم دعك من القضاء وانظر إلي مؤسسات الشرطة العريقة، هل كانت ستظهر للوجود لولا جذور الفساد العميقة ؟ وهل كانت مصر ستحتاج لأقسام البوليس لولا خوف الناس من أن يستولي الفاسدون علي كل نفيس؟ تخيل لو أن مؤسسات الشرطة غير شغالة، وهذه الآلاف المؤلفة من الضباط والصف والمجندين يعانون البطالة.. ألم يكن هذا التعطل من الأشياء المرذولة، المرفوضة غير المقبولة ؟
اغتاظ الزبانية من الرجل الذي يريد أن يسيِّر أمور الآخرة علي مزاجه، وقرروا ضربه بالمطارق ليقوِّموا اعوجاجه، لكن عزرائيل أمرهم بالصمت، وقال لهم إن لديه بعض الوقت، حتي تحين ساعة الموت، وواصل ابن العز كلامه، رغم الزبانية الذين يودون دق عظامه،فقال : دون فساد هل كانت ستوجد مصلحة الضرائب؟ ما رأيك لو أن رجال الضرائب، الذين يتقاضون أضخم الرواتب، مقابل الجهود الزائدة، كانوا عمالة كاسدة ؟
وأكمل في خيلاء : والأطباء، ماذا كانوا سيفعلون لو لم يحرق الفساد دماء الشرفاء، فيضطرهم للذهاب إلي العيادات لطلب الشفاء ؟ إن الفساد نعمة لا نقمة، وأنا أنفذ المشيئة الإلهية وإن كانت وسائلي شيطانية.
تململ الثعبان الأقرع الجبار، وبدا في عينيه الإحمرار، ونط منهما الشرار، وفتح فمه يريد أن يلتهم هذا الثرثار، لكن عزرائيل نهره بشدة وخاطبه بحدة، فلزم الثعبان حده. وتكلم عزرائيل بصوت واثق، وقال دون تردد أو عائق : يا ابن العز، اعلم أنك تستطيع أن تخدع الناس، لكنك لاتستطيع أن تخدع رب الناس. لقد اتبعت سياسة الاحتكار، ورفعت علي الناس الأسعار، وأخذت المصانع دون وجه حق لتدر عليك مليارات الجنيهات المصرية، ولم تكتف بإفساد الحياة الاقتصادية، بل خربت أيضاً الحياة السياسية،وتصر علي عدم النزول من فوق الخشبة أو الخروج من الحلبة، فتسببت في غضب الخلق، وأخيراً تزعم أنك علي حق ؟
ونظر لمن معه وقال : خذوه فغلوه وفي جهنم القوه.
صرخ ابن العز في هلع، لكن خوفه لم يمنع عنه زحف الأقرع، ولا غضب الزبانية، ومطارقهم العاتية، لولا أن استيقظ من نومه، وراح يستغفر الله بقية يومه. وتمني لو أنه لم يولد وفي هذه الدنيا لم يوجد. وجاء ليروي لنا حكايته التي لو نقشت بالإبر علي مآقي البشر لكانت عبرة لمن اعتبر.