الأهرام
احمد عبد المعطى حجازى
4 ـ الدين والفن.. لغة واحدة
لا أظن أننا لانزال محتاجين لأمثلة جديدة نؤكد بها أن الدين والفن لغة واحدة بعد الأمثلة التى قدمناها فى الأسابيع الثلاثة الماضية.
لقد قلنا إننا فى الدين والفن نتحدث عن عالم آخر يختلف عن عالم الواقع وإن كان متصلا به أشد الاتصال، وهو عالم الغيب الذى نراه بخيالنا وأشواقنا وننفعل به ونعبر عنه بلغة تختلف عن اللغة التى نعبر بها عن عالم الواقع الذى نراه ونتحرك فيه. اللغة التى نعبر بها عن عالم الواقع هى لغة الخبر والتقرير والتسجيل. أما لغة الدين والفن فهى لغة الرؤيا والتجاوز والحدس والنبوءة والحلم والانفعال. لغة الواقع تصف الواقع كما هو. أما لغة الدين والفن فتصف ما تتخيله وما تحلم به وما تتمنى أن يكون. ولهذا نسميها لغة مجازية، لأنها تجتاز الواقع وتتجاوزه وتنتقل منه إلى هذا العالم الآخر الذى يسميه الدين عالم الغيب، وتسميه الفلسفة ما وراء الطبيعة، ويسميه الشعراء عالم الخيال.

ولقد رأينا فى الأمثلة التى قدمناها من قبل صورا من هذه اللغة المجازية التى تعتمد عليها التعبيرات الدينية كما تعتمد عليها التعبيرات الأدبية والفنية إلى الحد الذى نستطيع فيه أن نقرأ النص الدينى باعتباره نصا أدبيا أو شعريا.

يستطيع غير المسلم أن يقرأ فى القرآن الكريم آيات يهتز لها من أعماقه لأنها تعبر عن خبرة إنسانية حية يشترك فيها البشر جميعا وتثير انفعالات لا يختص بإثارتها دين بالذات.. ويستطيع غير المسيحى أن يجد فى التوراة والإنجيل نصوصا ربما ظنها قصائد، لأنها تحمل شعرا فى الحب وتأملات فى الحياة يستطيع أن يتذوقها مهما تكن عقيدته الدينية.

حين نقرأ فى «نشيد الإنشاد» الذى لسليمان قوله: «حبيبى لى وأنا له ـ فى الليل على فراشى طلبت من تحبه نفسى طلبته فما وجدته ـ أحلفكن يا بنات أورشليم بالظباء وبأيائل الحقل ألا تيقظن ولا تنبهن الحبيب حتى يشاء!».

حين نقرأ هذا النص نقرأ ما فيه من شعر قبل أى شيء آخر. لأن الشعر فن لا تخلو منه لغة من اللغات، فبوسعنا جميعا أن نهتدى إليه وأن نتذوقه. أما الدين فيختلف من ثقافة إلى أخرى ومن مجتمع إلى مجتمع.

ولأن التعبير الدينى والإبداع الأدبى ربما اجتمعا فى نص واحد فالرسالة الدينية والموهبة الأدبية ربما اجتمعتا فى الرجل الواحد، اخناتون كان شاعرا وكان فى الوقت ذاته مبشرا بدين جديد. والمزامير فى التوراة نص ديني. لكن هذا النص الدينى شعر يغنى كما نفهم من كلمة المزامير. وهذه المزامير تنسب لداود. وداود نبى من أنبياء الله، وهو فى الوقت ذاته مغن، بل هو كما تقول التوراة «إمام المغنين على ذوات النفخ وذوات الأوتار».

وكما جمع داود بين الرسالة الدينية والموهبة الشعرية جمع بعض الشعراء بين الشعر والرسالة.

الشاعر أمية بن أبى الصلت كان شاعرا متنبئا، عاصر النبى عليه السلام، وطلب الحكمة ورحل وراءها يبحث عنها فى الكتب المقدسة وفى الحجاز والشام واليمن. وقد هجر عبادة الأوثان، وحرم الخمر، وآمن بالله وملائكته ورسله. وعبر عن عقيدته فى شعره وكما فعل ابن أبى الصلت فعل أبو الطيب أحمد بن الحسين الذى قرأ الفلسفة وادعى النبوة وسمى المتنبي. وقبل المتنبى وقبل ابن أبى الصلت جمع أفلاطون بين الفلسفة والشعر والرسالة. وهذا ما نجده فى «جمهوريته» التى يحلم فيها بمدينة فاضلة يتخيلها ويرسم لنا صورتها ويحدد لكل منا مكانه فيها.

ومع أن أفلاطون كان شاعرا قرأ شعراء اليونان وخاصة هوميروس، ونظم الشعر وخاصة شعر المسرح ـ مع هذا كان أفلاطون يكره الشعراء ـ لأن الشعر فى نظره محاكاة للطبيعة، والطبيعة محاكاة للمثال، وإذن فالشعر والفن عامة محاكاة للمحاكاة وهو بالتالى يبتعد عن الحقيقة مرتين. من هنا لا مكان للشعراء فى المدينة الفاضلة. وعلى الذين يتولون أمور هذه المدينة أن يستدعوهم ليتوجوهم أمراء للكلام، ثم يشيعوهم إلى خارج المدينة!

هذا الموقف الذى وقفه أفلاطون من الشعر ومن الفن عامة تكرر فى مختلف العصور. فعلى الرغم من أن الدين والفن لغة و احدة فالعلاقة بين رجال الدين ورجال الفن لم تكن دائما علاقة ودية. والسبب هو تلك القرابة التى كان ينتظر معها أن تكون هذه العلاقة ودية. فاللغة الواحدة التى يستخدمها هؤلاء وهؤلاء تغرى بعض الشعراء بادعاء النبوة كما فعل المتنبي. فضلا عن أن هذه اللغة المجازية لغة غنية تختزن الكثير، وتتطور مع الواقع، وتستجيب لتعدد وجهات النظر، وتتسع بالتالى للتأويل أى لمشاركة كل قادر على القراءة فى فهم النص الديني. وهى بهذا تمنع رجال الدين من الانفراد بالحديث عن الدين، وتجعلهم مرجعا فحسب يقدم الفتوى لمن يطلبها لا وكلاء عن الله يدعون امتلاك الحقيقة ويفرضون رأيهم فى الدين والسياسة، والاقتصاد والمجتمع، والعلم والفن، وذلك باستبعادهم للمجاز وتجاهلهم له وفهمهم النص الدينى فهما حرفيا لا يستشيرون فيه إلا المعجم، ولا يعبأون بما يقوله النص فى تركيبه الدال وفى علاقاته بالعالم الخارجى وبما يتحرك فى داخله من مفردات تتقارب وتتباعد، ومن معان تتداعى وتتوالد.

النص الدينى بلغته المجازية هذه يضع حدا فاصلا بين لغة الوحى وما نفهمه منها، ويمنع الخلط بين وظيفة رجل الدين ووظيفة رجل الدولة، ومن هنا اصطدم الشاعر بالفقيه والفنان بالكاهن على نحو ما رأينا وما نرى حتى الآن.

الفقهاء المسلمون كفروا الحلاج وصلبوه، وكفروا ابن رشد لأنه يقدم العقل على ما يتعارض معه من النصوص الدينية إذا فهمت بمعناها الحرفي، وكما فعل الفقهاء القدماء مع الحلاج، وابن رشد، وابن عربى فعل الفقهاء الجدد مع نصر حامد أبو زيد لأنه يقدم العقل هو أيضا ويدعو لتأويل النصوص التى يقرأها هؤلاء الفقهاء كما يقرأون لغة الصحف ولهذا يحرمون التصوير والتمثيل ويطالبون الفنانين باعتزال الفن.

والذى صنعه ويصنعه الفقهاء المسلمون صنعه قبلهم أباطرة بيزنطة الأرثوذكس وكهنة روما الكاثوليك. أباطرة بيزنطة منعوا تقديس الصور ودمروا الأيقونات والتماثيل. وكهنة الفاتيكان كفروا سافونا رولا الذى سبقهم إلى تكفير الشعراء والفنانين.

نعم الدين والفن لغة واحدة. نتجاوز بها الواقع ونتصل بالمثل العليا التى نتلقاها من الدين أو نكتشفها بالفن. ومعنى هذا أننا فى حاجة للدين والفن معا. لكن الدين احتياج، والفن احتياج آخر.

الدين علاقة بين الانسان وخالقه، فالدين تسليم والتزام. أما الفن فعلاقة بين الانسان ونفسه، فالفن إبداع وحرية. وكما نلتزم بالنص الدينى نلتزم بحرية الابداع التى لايمكن أن تتعارض مع الدين. لأن الالتزام الدينى نفسه التزام حر. ولأن اللغة المجازية تعبر بنا المسافة بين مايتعارض مع الحرية وما لايتعارض معها.

نحن فى أشد الحاجة للحرية. لأننا بالحرية نجدد خطابنا الثقافي. وبالحرية نجدد خطابنا الديني. فالثقافة المصرية لم تتدهور إلا بالطغيان. والخطاب الدينى لم يتحجر إلا بالطغيان. والديمقراطية هى الحل.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف