جمال عبد الناصر
العارفون في عرفات بين الخوف والرجاء
ربما يتألى البعض على ربه في الحج ظانًّا أنه لا بد أن يغفر له!! ولكنَّ العارفين بالله تعالى كانت لهم أحوال غير ذلك، كانوا -بالرغم من اجتهادهم والتزامهم بشرع الله- لا يأمنون مكر الله، وكل منهم يتهم نفسه.
فهذا أبو بكر الصديق –رضي الله عنه- الذي زكاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبشره بالجنة يقول: "لو أن إحدى قدماي في الجنة والأخرى خارجها ما آمن مكر الله"، وهذا الفاروق عمر -رضي الله عنه- الذي زكاه رسول الله أيضًا يقول: "لو نادى منادٍ يوم القيامة كل الناس يدخلون الجنة إلا واحدًا لظننت أن هذا الواحد هو عمر"، فأين نحن من سلفنا الصالح رحمهم الله، هناك من الناس من إذا حَجَّ اعتقد دونما شك أنه مغفور الذنب، وكثير من الناس إذا كان يلتزم بالصلاة في المسجد فإذا به يزكي نفسه، لا، لا بد من التواضع لله رب العالمين، ولا بد عند سؤاله سبحانه أن نسأله بكل خضوع وخشوع بنفس يملؤها الخوف والرجاء.
يقول الدكتور رفعت فوزي عبد المطلب أستاذ الشريعة الإسلامية بكلية دار العلوم جامعة القاهرة: "يوم عرفة يوم من أيام الله عزَّ وجلَّ، يتجلَّى فيه على عباده، ويُفيض عليهم من رحمته ومغفرته وبركاته، إنّه يوم يجتمع فيه خيار عباد الله المخلصين وخواصِّه المقرَّبين، وهو أعظم مجامع الدنيا.
والوقوف بعرفة هو أهمُّ أركان الحج، فعن عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال: أتيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم- وهو بعرفة، فجاء ناسٌ أو نفرٌ من أهل نجد، فأمروا رجلاً فنادى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلاً فنادَى: الحجُّ يوم عرفة أي أهم أركان الحج الوقوف بعرفة. وفيه يدنو الله تعالى من الخلق ويُباهِي بأهل عرفة الملائكةَ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله تعالى يباهِي بأهل عرفات أهلَ السماءِ، فيقول لهم: انظروا إلى عبادي جاءوني شُعثًا غُبرًا من كل فَجٍّ، أُشهدكم أني قد غفرتُ لهم".
وواجب على الحاجِّ أن يجتهد فيه بذكر الله -عزَّ وجَلَّ-ـ ودعائه، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه أن النبي -صلى الله عليه وسلم-ـ قال خير الدُّعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنَّبِيُّون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير ، وينبغي للحاج أن يكثر من التضرُّع في هذا اليوم والخشوع، وإظهار الضَّعف والافتقار والذِّلّة، وهو يتوجّه إلى الله تعالى بالذكر والدعاء. فعن ابن عباس قال: رأيتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعو بعرفة ويداه إلى صدره كاستطعام المِسكين.
ويُستَحَبُّ للحاج أن يكثر من التلبية رافعًا بها صوته، ومن الصلاة والتسليم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما يُستَحَبُّ أن يأتي بأنواع من الذِّكر والدُّعاء، فتارة يدعو، وتارة يهلِّل، وتارة يُكَبِّر، وتارة يلبِّي، وتارة يستغفر، ويدعو منفردًا ومع جماعة، وليدْعُ لنفسه ولولديه، ولأقاربه وشيوخه وأحبابِه وأصحابه، وسائر من أحسن إليه. وسائر المسلمين وينبغي أن يكون حاضر القلب فارغًا من الأمور التي تشغلُه عن الدُّعاء والذِّكْر والعبادة.
أما الدكتور أحمد القوشتي عبد الرحيم أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم جامعة القاهرة فيقول: "للصالحين من السلف حين وقوفهم بالمشهد العظيم الجليل يوم عرفة أحوال وأي أحوال!! فمنهم من كان يغلب عليه الخوف من الله، والحياء من التقصير، واستحضار عيوب النفس، والإزراء الشديد بها، حتى إن أحدهم ليقول: "اللهم لا ترد أهل الموقف من أجلي"، ويقول الآخر: "ما أشرفه من موقف وأرجاه لأهله لولا أني فيهم"، ودعا بعض العارفين بعرفة فقال: "اللهم إن كنت لم تقبل حجي وتعبي ونصبي فلا تحرمني أجر المصيبة على تركك القبول مني".
ووقف الفضيل بن عياض بعرفة والناس يدعون وهو يبكي بكاء الثكلى المحترقة قد حال البكاء بينه وبين الدعاء، فلما كادت الشمس أن تغرب رفع رأسه إلى السماء وقال: واسوأتاه مِنْكَ وإن عفوْتَ، وقال الفضيل أيضًا لأحد إخوانه: إن كنت تظن أنه شهد الموقف أحدٌ شرًّا مني ومنك فبئس ما ظننت، ونظر الفضيل تسبيح الناس وبكاءهم عشية عرفة، فقال: أرأيتم لو أن هؤلاء ساروا إلى رجل فسألوا دانقًا، يعني سدس درهم، أكان يردهم؟ قالوا: لا قال: والله للمغفرة عند الله أهون من إجابة رجل لهم بدانق".
ومن العارفين بالله من كان يتعلق بأذيال الرجاء وحسن الظن في كرم الله وواسع عطائه، مثلما روي عن ابن المبارك أنه قال: جئت إلى سفيان الثوري عشية عرفة وهو جاثٍ على ركبتيه وعيناه تهملان فقلت له: من أسوأ هذا الجمع حالاً؟ قال: الذي يظن أن الله لا يغفر له.
فعلينا إذن أن نجتهد في هذه الأيام المباركات بالدعاء خاشعين لله تعالى خاضعين يملؤنا الخوف والرجاء في عفو الله سبحانه وتعالى.