فرخندة حسن
تجربتي من قاعة المحاضرات إلي المقعد البرلماني
انطلاقاً من شعوري بالمسئولية أنوي تسجيل تجربتي المتواضعة تحت القبة، خلال فترة عضويتي في مجلسي الشعب والشوري والتي استمرت ثلاثة وثلاثين عاماً بما فيما من إيجابيات وسلبيات
كنت بعيدة تماماً عن الحياة السياسية بل بالعكس كنت أتحاشي أي نشاط له صلة بها، فقد كان تصوري الخاطئ للسياسة أنها مجرد شعارات وأنشطة تدفعها أغراض شخصية ورغبات جامحة للوصول إلي السلطة وكلها مظاهر بعيدة تماماً عن طبيعة طموحاتي التي كانت تنحصر في مزيد من التقدم في أبحاثي العلمية وفي تكامل أدائي كأستاذ بالجامعة وأن التفاني في نشر رسالة العلم والتعليم في تصوري هو الأسلوب الأمثل لخدمة الوطن وكنت راضية تماماً عن نفسي، إلي أن قامت حرب أكتوبر 1973، وتملكني شعور جارف برغبة مزيد من المشاركة وخدمة الوطن بصورة أشمل وعلي نطاق واسع، فكان أن انضممت إلي مجموعة السيدات اللائي أشرفن علي خدمة جرحي الحرب بقيادة السيدة / جيهان قرينة الزعيم الخالد محمد أنور السادات التي لم تكن تهدأ لا ليلاً ولا نهاراً، توليت خدمة عنبرين كبيرين للجنود الجرحي في مستشفي القصر العيني لفترة امتدت لحوالي الشهرين، لم أعد بعدها نفس الشخص ولا أدري ماذا حدث لي، فلم يعد التعليم والبحث العلمي في نظري هو كل شيء، شعرت أن هناك عليَّ واجب آخر نحو وطني وأن هناك بعداً غائباً في حياتي، لكن ما هو ؟، لم يكن هناك شيء محدد واضحاً أمامي. حدث تغيير شامل في تفكيري انعكست آثاره الأولي علي طبيعة أبحاثي العلمية التي تحولت، فلم تعد تلك الأبحاث التي كانت تقتصر علي الجانب الأكاديمي البحت مثل أثر الإشعاع علي صخور الأرض والقمر وهو تخصصي الدقيق، بل أصبحت أبحاثي ذات طبيعة تطبيقية إلي حد كبير .. أبحاث عن العناصر النادرة في فوسفات مصر وخاماتها وآثار السد العالي علي مكونات وخواص رواسب النيل وبالتالي علي مكوّنات التربة الزراعية وغير ذلك من البحوث التي تمس قضايا التنمية.
حدث في تلك الأثناء أن كان هناك اتجاه في الدولة لتحويل نظام التعليم في الجامعات المصرية إلي نظام الساعات المعتمدة، وعهد إلي لجنة التعليم في حزب مصر في ذلك الوقت برئاسة الأستاذ الجليل الدكتور / صوفي أبو طالب رحمه الله بدراسة ذلك، وكان أن دعاني حيث أني أعمل في الجامعة الأمريكية بالقاهرة التي تتبع هذا النظام ورأي أن يستمع إلي من مارسوا هذا النظام فعلاً، وكانت مناقشة ممتازة شعرت بالجدية والحرص الشديد والرغبة الحقيقية في النهوض بالعملية التعليمية، وخرجت من اللقاء وأنا سعيدة بأن يهتم السياسيون بموضوع التعليم وبهذه الدرجة. وفي نفس الفترة تقريباً تمت دعوتي كجيولوجية في لجنة الإسكان في الحزب والتي كان يرأسها السيد المهندس / حسب الله الكفراوي، وكانت اللجنة معنية بدراسة مواقع المدن الجديدة التي كانت الدولة قررت إنشاءها (السادات - 15 مايو - 6 أكتوبر ...الخ) وتفاعلت مع المناقشة وأدليت برأيي العلمي الذي تناوله المهندس الكفراوي بكل الاهتمام، وشعرت للمرة الثانية بحرصه وهو رجل السياسة علي معرفة الحقائق العلمية وأخذها في الاعتبار، وخرجت من هاتين التجربتين بمفاهيم جديدة عن السياسة والسياسيين، وأن المعني والمفهوم الحقيقي للسياسة هو حسن إدارة المجتمع وأن بعض الممارسات غير السوية هي التي كانت سبباً في انطباعي الخاطئ عنها، وعشت حال تحوّل في تفكيري استمرت لفترة حدث في خلالها أن دعتني الأستاذة الدكتورة معتزة خاطر الأستاذ بكلية العلوم بجامعة القاهرة وأمينة المرأة في حزب مصر في ذلك الوقت، للانضمام إلي أمانة المرأة في الحزب فلم أتردد بل سعدت وتحمست وكان هذا هو الباب الواسع الذي دخلت منه إلي عالم السياسة.
صدر قرار جمهوري بقانون قبل انتخابات مجلس الشعب في عام 1979 بتخصيص ثلاثين مقعداً للمرأة، وهو ما كان بمثابة طفرة في مسيرة النهوض بالمرأة المصرية التي آمن بقدراتها الزعيم الراحل / محمد أنور السادات، وكانت المفاجأة الكبري هي ترشيحي في دائرة الدقي لمقعد المرأة عن محافظة الجيزة، وكان خوض الانتخابات تجربة شاقة لكن ممتعة تعلمت خلالها في أقل من شهرين ما لم أتعلمه في سنوات، وواجب علي أن أسجَّل هنا أن ما قامت به السيدة / جيهان السادات من المساندة والنصح والتشجيع لي ولباقي المرشحات، كان له أكبر الأثر علي أدائي أثناء الحملة الانتخابية، وشرفت بثقة أهل الدائرة وبعضوية مجلس الشعب في الفصل التشريعي الثالث الذي بدأت دورته الأولي في يونيو 1979 إلي نهاية الدورة الخامسة والأخيرة في 1984. وبعد فترة لا تتعدي أسابيع قليلة من انتهاء عضويتي في مجلس الشعب شرفني الرئيس / محمد حسني مبارك بالتعيين في مجلس الشوري، واستمرت عضويتي فيه منذ عام 1984 حتي تم حل المجلس في فبراير 2011.
كان شعوري في بداية عضويتي في مجلس الشعب منذ عام 1979 خليطاً من الرهبة والقلق والأمل والحرص الشديد، ولم ينته بانتهاء عضويتي في نهاية الدورة البرلمانية في عام 1984، بل استمر مع تعييني في مجلس الشوري ... الرهبة من وجودي وسط مجموعة من رموز العمل الوطني والعمل السياسي والقيادات السياسية القديرة ... أما القلق فكان من المجهول الذي قد يظهر فجأة ويحدث ما يمكن تشبيهه بالانقلاب في التفكير، وهو ما حدث فعلاً، فمثلاً كان تفكيري طوال حياتي قبل العضوية البرلمانية أن العلوم الطبيعية، وهي تخصصي ومهنتي شيء والسياسة شيء آخر تماماً، بيد أن تفكيري انقلب رأساً علي عقب عندما اكتشفت ضرورة تسخير العلم لخدمة قضايا التنمية سواء السياسية منها أو المجتمعية أو الاقتصادية، وبدون ذلك يصبح علماً لا فائدة منه ولا خير فيه ... والأمل - وقد أعطاني الله عز وجل فرصة سانحة لتوسيع دائرة خدماتي وولائي لوطني - أن يكون لي دور في إحداث تغيير في مجال ما، وقد يشد سبحانه وتعالي أزري فأحدث تصحيحاً لوضع ما، وقد حدث ... أما الحرص فقد لازمني في كل كلمة وفي كل حركة وكل لفتة، الحرص من أن أقع في أقل خطأ سواء تحت القبة في المناقشات البرلمانية أو خارجها في المعاملات اليومية، كان هذا الحرص، هو الحصن الحصين لي، وقد حرصت طوال أكثر من ثلاثين عاماً علي ألا أتحدث تحت القبة إلا فيما أفهم فيه، ولا أنطق بكلمة إلا وأنا واثقة من أنها الكلمة المناسبة في الموضوع المناسب وفي الوقت المناسب، وأن لا أتناول أي موضوع إلا بعد الدراسة المتأنية الموضوعية، بعد أن تتاح لي معرفة الأمور بوضوح تام.