في مثل هذا اليوم العظيم منذ أكثر من ألف وأربعمائة وخمسة وعشرين عاماً وقف رسولنا الكريم - صلي الله عليه وسلم - علي جبل الرحمة في عرفات يلقي علي مسامع الدنيا كلها خطبة عصماء اعتبرت بمفاهيم عصرنا بياناً ثورياً لتأسيس حقوق الإنسان وحقوق المرأة.. وتضمنت قواعد جديدة لبناء مجتمع جديد ينهض علي الحرية والمساواة والإخاء بين الناس.. كل الناس.. وهو كلام جديد تماماً علي من سمعوه في ذلك الزمان.. لذلك كان الرسول يستوثق منهم بأن رسالته وصلت: ألا هل بلغت؟! فيأتيه الرد: نعم.. فيقول: اللهم فاشهد.. وليبلغ الشاهد الغائب.
ونحن اليوم نحتفل بوقفة عرفات.. ونبتهل إلي الله بالدعاء.. ونسأله الإجابة.. لكننا أهملنا عن عمد أو تكاسل أو جهل - المبادئ الأساسية التي جاء بها بيان جبل الرحمة.. التي لو قارناها بواقعنا الأليم لزادتنا حسرة فوق حسرتنا.. هذا البيان النبوي مر عليه أكثر من أربعة عشر قرنا وربع القرن وكلما قرأناه اليوم أدركنا أننا غرباء عنه وأننا نكتشفه للمرة الأولي.
من فوق جبل الرحمة في عرفات جاء البيان النبوي بالمبادئ التي تتطلع إليها البشرية لتعيش في سلام وأمان.. والتي من أهمها:
* أيها الناس.. إن دماءكم وأعراضكم حرام عليكم إلي أن تلقوا الله كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا.. فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلي من ائتمنه.
* إن لنسائكم عليكم حقاً ولكم عليهن حق.. فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهن خيراً.
* إن ربكم واحد وإن أباكم واحد.. كلكم لآدم وآدم من تراب.. وإن أكرمكم عند الله أتقاكم.. ليس لعربي علي عجمي فضل إلا بالتقوي.
* لا ترجعوا بعدي كفاراً.. يضرب بعضكم رقاب بعض.. فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا أبداً.. كتاب الله وسنة نبيه.
* أيها الناس.. إنما المؤمنون إخوة ولا يحل لامرئ مال لأخيه إلا عن طيب نفس منه.
* إن ربا الجاهلية موضوع ولكن لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تُظلمون.. وقضي الله أنه لا ربا.. وأن أول ربا أبدأ به ربا عمي العباس بن عبدالمطلب.
* أيها الناس.. إنما النسئ زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله ويحرموا ما أحل الله.. وأن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض.. وأن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ثلاثة متواليات وواجد فرد.. ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادي وشعبان.
* أيها الناس.. إن الله قد قسم لكل وارث نصيبه من الميراث ولا يجوز لوارث وصية.. ولا تجوز وصية في أكثر من الثلث.
أين أمتنا المضطربة التائهة من هذه الوصايا العظيمة التي جاءت علي لسان أشرف الخلق في يوم عظيم؟!
أمتنا ضاعت لأنها استرخصت الدماء.. وصار القتل عندها لعبة كل يوم.. لم تعد للدماء ولا للأعراض حرمة.. ومنها من يحرم الحلال ويحلل الحرام وانتشرت فيها الأمراض الاجتماعية المهلكة لأنها أهملت هذا البيان النبوي ولم تلتزم بالقواعد التي جاء بها.. بينما التزمت أمم أخري وفهمت الرسالة وسادت الدنيا.
الدين لم يكن مجرد شعارات.. ولا مجرد عبادات.. الدين المعاملة.. ومن لم يطبق في معاملاته قواعد الدين فليس له أن يدعي ما ليس له وما ليس فيه.. وما ينطبق علي الافراد ينطبق علي الأمم والمجتمعات.. فالأمم حين تبتعد عن قواعد الدين.. ولا تلتزم بتطبيقها تسود فيها المظالم.. ويشتد فيها القتل حتي في الأشهر الحرم.. وهو ما نراه - للأسف - في أمتنا المضطربة.
اللهم اهدنا إلي سواء السبيل.