الصباح
خالد عكاشة
استغلت انشغال الأطراف الفاعلة إقليميًا ودوليًا خسائر إسرائيل من هجماتها على المسجد الأقصى
*الأردن تعيد النظر فى علاقاتها بتل أبيب.. ومصر والسعودية يحذران.. والدول العربية لن تتجاهل الملف
*الاشتباكات اندلعت بعد زيارة وزير الزراعة الإسرائيلى «أورى إريئيل» إلى الحرم

التنديدات العربية والدولية الشاحبة، وانشغال كل الأطراف الفاعلة إقليميًا ودوليًا بما قد يكون أهم من وجهة نظرهم وتقديراتهم، هو ما دفع جيش الاحتلال الإسرائيلى لأن يكثف من هجماته الشرسة على المسجد الأقصى طوال أسبوع كامل، مشهد الاعتداء وممارسة التضييق على سكان القدس الفلسطينيين ليس بجديد فالمسجد الأقصى يتعرض منذ احتلاله عام 1967م لاعتداءات متواصلة من قبل المستوطنين اليهود وقوات الاحتلال الإسرائيلى، ووزراء ونواب بالكنيست، لكن الأيام الأخيرة ازدادت الاقتحامات، فمنذ الأحد الماضى يقتحم جيش الاحتلال، باحات المسجد الأقصى يوميًا وبشكل متتالى.
فتيل الاشتباكات التى اندلعت بسبب زيارة وزير الزراعة الإسرائيلى «أورى إريئيل» تعود إلى أسابيع مضت، حيث كان وقودها أيضا تصاعد الغضب الفلسطينى بسبب تغييرات تم إدخالها على إجراءات الدخول إلى الموقع المقدس والحساس، الاحتلال الإسرائيلى قام بعدد من الخطوات فى الشهر الأخير ساهمت فى تصعيد التوتر حتى قبل اندلاع المواجهات العنيفة واسعة النطاق، وهى التى بدأت يوم الأحد الماضى بعد زيارة مجموعة من نشطاء اليمين المتطرف والمستوطنين الذين رافقوا الوزير الإسرائيلى وأعلنوا نيتهم للصلاة فى الحرم القدسى على الرغم من القوانين التى تحظر صلاة اليهود فى الموقع.
كان هذا كافيًا لاشتعال الحريق على الجانب الفلسطينى ابتداء من دعوات لمواطنى مدن الضفة الغربية للقدوم والدفاع عن الحرم الشريف، ثم أتبعها المواجهات المتواصلة بين المحتجين والشرطة التى سيطرت على المشهد برمته، فى حديث مباشر مع بعض من السكان الفلسطينيين فى القدس الشرقية، ذكروا أنه فى الشهر الأخير أصبحت إجراءات دخول المصلين المسلمين إلى الحرم القدسى أكثر صارمة، بما فى ذلك منع دخول جزء من المصلين فى ساعات الصباح وهى خطوة يقولون بإنها غير مسبوقة، وأن هناك سلسلة من الأحداث تبدو معقدة بعض الشيء لكنها تشير فى النهاية أن هناك إصرارًا ما لتغيير أوضاع الحرم القدسى، فلسنوات عديدة كان يتم السماح لغير المسلمين بزيارة الحرم القدسى خلال ساعات محددة وخاصة خلال الصباح ولساعة واحدة بعد صلاة الظهر، ولكن فى الأشهر الأخيرة كان هنك ازدياد فى عدد تلك الزيارات ودار خلالها مصادمات من مجموعة النساء «المرابطات» التى تم حظرها إسرائيل مؤخرًا مع زوار غير مسلمين، وكانت هذه المشاحنات لها سبب وحيد هو حماية الموقع المقدس، نتيجة لذلك بدأت شرطة القدس بمنع دخول النساء المسلمات خلال الساعات التى يزور فيها يهود وأجانب الحرم، ثم بعد ذلك تم منع دخول الرجال تحت سن الـ 50 أيضا بشكل أعلن أنه سيكون مؤقتا فإذا به ينقلب مع مرور الوقت إلى نهائى !!
بالنسبة لمسئولى السلطة الفلسطينية التى ترصد تلك التداعيات ذكروا بأن الإعلام الإسرائيلى يلح ويتواصل مع معظم الرأى العام الإسرائيلى فى من هم خارج القدس برسالة واحدة، مفادها أن سلسلة الأحداث هذه فى القدس الشرقية هى نتيجة تصعيد متعمد من قبل منظمات فلسطينية متطرفة، وهذا ما يدعيه وزراء الحكومة الإسرائيلية فى كل تصريحاتهم وشرطة القدس، كذلك فى بياناتها، لكن الواقع يبدو أخطر من ذلك بكثير فهذه الخطوات التصعيدية من التوتر أعطت المسلمين فى القدس الشعور المؤكد بأن إسرائيل تحاول تغيير الوضع الراهن فى الموقع الحساس، ففى يوم الأحد عندما اندلعت المواجهات قامت الشرطة الإسرائيلية بمنع دخول جميع المسلمين خلال ساعات الزيارة اليهودية لأول مرة بهذه الطريقة، أضف إلى ذلك نشاط جديد للشرطة نفذته فى الأيام الأخيرة، فى اليوم التالى للزيارة يوم الإثنين قبل ساعة ونصف الساعة من فتح الأبواب لغير المسلمين (قبل الساعة 7:00 صباحا)، دخلت الشرطة الحرم القدسى واشتبكت مع الفلسطينيين الذين كانوا هناك ليسقط ما يقارب 60 مصابًا فى يوم واحد، وذكرت الشرطة يوم الثلاثاء أنها دخلت الموقع بالاستناد على معلومات استخباراتية لإحباط أعمال شغب وهجمات ضد اليهود مخطط لها مسبقًا، وأشارت إلى العثور على قنابل أنبوبية وقنابل حارقة وأسلحة أخرى مع الفلسطينيين، مما دفعها إلى محاصرة المصلين فى المصلى القبلى وأطلقت عليهم الرصاص والغاز المسيل وأصيب العشرات منهم بالاختناق، وظلت باحات المسجد الأقصى تشهد اشتباكات عنيفة ومعارك كر وفر بين المصلين وقوات من شرطة الاحتلال الإسرائيلى بعد اقتحامها المسجد لليوم الرابع على التوالى، الكثيرون من الشباب تحت وطأة تلك الهجمات المستمرة والاعتداء السافر الذى خلف إتلاف كبير فى المداخل والباحة تحصنوا داخل المسجد الأقصى وقاموا بإلقاء الحجارة والمفرقعات وغيرها من الأمور المختلفة باتجاه الشرطة، وهؤلاء الشبان ليسوا أعضاء فى مجموعة فلسطينية محددة فقد كان هناك كافة التيارات المختلفة من منظمة فتح والجهاد الإسلامى وحماس والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وهم يدركون أنه هذه هى لحظتهم الفارقة التى يجب أن يقفوا فيها بجوار بعضهم البعض.
منذ بداية الاقتحامات الأحد الماضى أصيب ما يزيد عن 150 شخصًا بجانب اعتقال العشرات وأتبع ذلك مجموعة من الإجراءات الحكومية أصدرها بنيامين نتنياهو، الأمر الذى يدفعنا للتساؤل: لماذا يكثف الاحتلال من اقتحاماته للمسجد الأقصى الآن وما سبب دفعه لأحد وزرائه للقيام بتلك الزيارة المشؤمة؟ ما يبدو حقيقة يدور خلف ستار التخطيط الإسرائيلى أن الاحتلال يرى الوقت مناسب وملائم لتحقيق أجندته المتعلقة بتقسيم المسجد الأقصى مكانيًا وزمانيًا، ومن ثم يتبع ذلك تهويده وتقويض الأوضاع المستقرة فيه منذ الاحتلال العام 1967م، حيث تسعى إسرائيل لتطبيق واقع التقسيم الزمنى والمكانى للمسجد الأقصى بالقوة واستغلالًا للأحداث الجارية، ويعنى التقسيم الزمانى تخصيص أوقات معينة للصلاة فى المسجد الأقصى للمصلين اليهود وفترة باقية للمسلمين، بينما يعنى التقسيم المكانى تخصيص أماكن بعينها لكل منهما وهى خطوة تمهيدية مهمة تسبق ابتلاع وتهويد القدس الشرقية تعمل عليها حكومة نتنياهو الآن، فقد أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلى الأربعاء الماضى قرارًا بتشديد العقوبات بحق راشقى الحجارة، وذلك بعد يوم ثالث من المواجهات بين الشرطة الإسرائيلية والفلسطينيين داخل وحول مجمع المسجد الأقصى فى القدس الشرقية، كما صادقت الحكومة الإسرائيلية فى نفس اليوم على السماح لقوات الأمن فى القدس بإطلاق النار من بنادق قنص من طراز «روجر» على ملقى الزجاجات الحارقة.
عادة ما تتم اقتحامات عناصر الشرطة الإسرائيلية للمسجد الأقصى فى الساعات الأولى من الصباح بهدف إفراغه من «المرابطين»، توطئة لتمكين مستوطنين إسرائيليين من دخوله بحماية عناصر الشرطة، الموقع الإسرائيلى «أخبار الحرم» يضع عنوانًا رئيسيًا منذ تلك الأحداث ( حركة إحياء الهيكل تدعوك إلى الصعود إلى الحرم مع برنامج الساعات المخصصة لليهود )، وفى يوم الأحد نشر الموقع أنه من بين اليهود الكثيرين الذين ذهبوا إلى الحرم وزير الزراعة أورى إريئيل كعادته عشية رأس السنة، فضلا عن الزوار اليهود الذين ذهبوا إلى المكان المقدس بعد أن قامت الشرطة بابعاد الشباب الفلسطينيين بالقوة، حيث كانوا ينوون احباط الزيارة بواسطة رشق الحجارة، إريئيل بحسب الموقع بارك شعب إسرائيل وهنأه بحلول الأعياد القادمة، وأورى إريئيل هو نفسه الذى إلتقى فى يونيو 2015م مع الطاقم البرلمانى للطلاب من أجل الحرم، ووعد بأن يعمل من أجل وقف التمييز ضد اليهود فى الحرم، ووعد الطلاب أنه سيبادر إلى لقاء مع وزير الأمن الداخلى «جلعاد آردان» لفحص سلوك الشرطة الإسرائيلية تجاه الزوار اليهود فى الحرم، وقد بارك آردان الشرطة على تصرفها الحاسم فى يوم الأحد وقال «يجب إعادة النظر فى الترتيبات داخل موقع الحرم».
إريئيل حينما كان وزيرًا للإسكان قال قبل سنتين فى مؤتمر «أبحاث شيلا»، (نحن بحاجة إلى بناء الهيكل الحقيقى فى الحرم) ومنذ ذلك الحين هو لا يكرر تصريحاته بشكل علنى، لكن هذه الجملة ليست جملة عابرة فى حال النظر إليها مع الدمج بين الزيارات والاقتحامات المتكررة للمسلحين الإسرائيليين إلى الموقع الإسلامى المقدس، وهو ما يدفع لأن يكون لهذه الجملة دعوة توجيه خفية، كما إن محاولة تقديم زيارات اليهود اليوم على أنها تصحيح للتمييز وخطوة مساواة هى أمر يضع المشهد فى صورته المستقبلية، فالخطة اليهودية لاستكمال طرد الفلسطينيين من أرضهم واستكمال تقزيم التاريخ الفلسطينى ومحو علاقتهم العميقة بهذه البلاد، لابد إسرائيليًا أن يمر عبر المسجد الأقصى فهو صورة مصغرة لفلسطين كلها وأهميته الدينية بالنسبة للإسلام والمسلمين توحد وتمنح الفلسطينيين قوة مقاومة أكثر من أى منطقة مهددة أخرى.
لاشك أن أسبوع من أحداث العنف المشار إليها فى تلك النقطة الدقيقة أحدثت لإسرائيل أضرارًا دبلوماسية بالغة، ففى عمان الملك عبد الله الثانى قال الثلاثاء أنه إذا تواصلت «الاستفزازات» الإسرائيلية فإنه سيعيد النظر فى العلاقات بين المملكة الهاشمية وإسرائيل بالكامل، وهذا بدوره خلق ضغوطًا على الدول العربية التى سارع زعماؤها إلى الخروج بإدانات صارمة لـ»الانتهاكات الإسرائيلية»، فقد حذرت مصر والسعودية من تدهور الوضع فى الحرم القدسى ورفضتا قطعيا أى تغيير تطمح إليه إسرائيل من شأنه أن يدمر حل الدولتين، مع نهاية الأسبوع أجرى الملك الأردنى سلسلة من المحادثات الهاتفية بشأن هذا الموضوع، بما فى ذلك مع الرئيس المصرى عبد الفتاح السيسى ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، من غير الواضح ماذا ستكون نتائج هذه المحادثات حتى الساعة ولكن ما هو واضح أن الوضع بالنسبة لإسرائيل فى الساحة العربية ليس بسيطًا، حتى مع ازدحام المائدة العربية بالعديد من الملفات الساخنة المفتوحة فملف بحجم وثقل المسجد الأقصى والقدس لا أظن أن أحد من الزعماء أو أى من الدول العربية الكبيرة ليسمح بأن يتم ابتلاعه فى الظلام، فقد يكون أثره المدمر على باقى الملفات بما لا تتوقعه إسرائيل وليس هناك من يمكنه قبول تمريره وتحمل تبعات مؤامرة بهذه الأبعاد الخطيرة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف