جمعتني وإياه مدرسة واحدة طوال الدراسة الابتدائية والثانوية قبل أن يبتلي التعليم بالنظام الإعدادي.. تلك هي مدرسة دمياط الابتدائية ثم الثانوية.. وهي في رأيي من أفضل 10مدارس علي مستوي القطر المصري، إذ كانت مدرسة متكاملة تقدم لنا الدولة فيها كل شيء من مستلزمات التعليم بكل احتياجاته، أي غذاء العقل.. وأيضاً غذاء البطن، وأيضاً غذاء الروح: ثقافياً ورياضياً وترفيهياً.. تلك هي مدرسة دمياط الابتدائية الأميرية قبل عام 1946، ثم الثانوية من عام 1950.
<< وعرفت هنا علي سالم.. ابن أحد أبناء الجيل المطحون، حتي تحت المستوي المتوسط.. مثل معظم أبناء مصر الذين رأوا - أيامها- أن الاقبال علي التعليم يعوضهم، عن أمور كثيرة.
كان صبياً فارع الطول، وهو من جيلي الذي لم يتعود أن يقول لأبيه «مليم يا أبا» فلم نكن نجرؤ أن نطلب نصف القرش.. مثلاً!! لأن نصف القرش كان يوفر للأسرة ثلاث حزم واحدة جرجير والثانية فجل والثالثة كرات.. أو يملأ السلطانية بمختلف أنواع الطرشي!!
<< كانت نزهتنا - بعد إفطار رمضان- أن ننطلق خارج مدينة دمياط نتمشي كيلو مترات عديدة علي الطريق إلي القري المحيطة بالمدينة أو إلي السنانية نختلس بعض حبات الجوافة أو الجميز البامبوزيا!! وكنا من جيل تعود علي العمل لتدبير كل طلباته.. وكانت لكل منا طريقة في ذلك.
أما علي سالم فكان يعمل شتاء في سينما اللبان في وظيفة «بليسير» أي يدل الرواد علي أماكنهم، في الدرجة الأولي.. أما في شهور الصيف فقد عمل «كمسارياً» في سيارات الطفطف الشهيرة في رأس البر.. فنحن جيل لم يعرف الراحة.. أبداً، وكان العمل متعة لنا.. بالفعل وكان علي - مع كل ذلك - من أكثرنا قراءة .. هو ورجاء عبده حسنين اليساري زميلنا.. وفتحي الشرقاوي وعبدالرحمن عرنسه.. وبينما كنت أعشق كتب السير والتاريخ.. كان علي سالم يموت في كتب الأدب والرومانسية.. والقصص.
<< ولأنه كان أكثرنا رومانسية عاش - في رحلة الدراسة الثانوية، قصة حب رومانسية شهيرة يعرفها كل الزملاء.. ولكن والد المحبوبة وكان من رجال الدين المتشددين، فقد حارب قصة الحب هذه.. بحجة أنه ليس كفؤاً ليناسب.. رجل دين.. وانتهت قصة الحب علي غير ما يهوي سالم.. ولكنه يظل يتذكرها بل أري جهاده ونضاله قام علي أساس أن يتفوق ليثبت لوالد المحبوبة «الشيخ» أنه أفضل منه.. وقد كان..
ودخل علي سالم الجامعة، ولكن جرفه عشقه للفن، وبالذات المسرح، وكانت بدايته مع مسرح العرايس.. بينما انجذبت أنا إلي العمل الصحفي، وانطلق يعبر عن ذاته.. في كل أعماله المسرحية، التي منها ما ليس عملاً عادياً.. ولكنه تجد عشقه لدمياط التي ولد بها يوم 24 فبراير 1936 أي أصغر مني بأربعة وأربعين يوماً.. فقط، كنت تجد ذلك في كل تعبيراته وكلماته المسرحية.. تجد ذلك في «أغنية علي الممر».. كما تجده في عفاريت السما الزرقاء.. ولا أدري لماذا تجاهل البعض عمله الأدبي «أهرامات القمح» التي رأي في الأهرام رؤية غير تقليدية هي أن الفراعنة أقاموها لتصبح خزانات للقمح، بحكم أن المصري أكبر مخلوق علي الأرض يقدس لقمة العيش.. أما تهمة أنه أفسد التعليم منذ قدم لنا «مدرسة المشاغبين» فهذا اتهام مرفوض، لأن التعليم كان قد بدأ انهياره قبلها بكثير.. ولكنني شخصياً كنت أجد في معظم أعماله ما يؤكد دمياطيته..
<< وأتذكر مرة أن دخل عليَّ في مكتبي وأنا مدير لتحرير الوفد دون موعد سابق ومعه صديقه الصدوق الفنان أحمد زكي منذ ارتبطا ببعضهما من أيام بدايات أحمد زكي في مدرسة المشاغبين وكان الفنان الكبير يشكو لي يومها من تحامل محرر فني بالوفد ضده.. وكانت جلسة طويلة استعدنا فيها ذكريات أيام زمان..
<< ورغم ما كان بيننا من ود عميق فقد اختلفت مع المسرحي الرائع علي سالم في قضيته مع إسرائيل، ذلك أن رأيه ان اسرائيل ليست هي العدو الأول لمصر صدم الكثيرين.. وأدخله في دوامة رهيبة مع رافضي التطبيع مع إسرائيل.. وبالذات منذ استقل سيارته بنفسه، ودخل بها إلي.. إسرائيل!! ورغم تركز الهجوم عليه إلا أنه لم يتراجع عن رأيه هذا.. وهذا أثر في عمله الفني وفي إظهار العديد من أعماله الفنية.. كما يجب..
<< ولكن علي سالم كان شديد الشراهة للحياة.. محباً لها وعاشقاً لمباهج الحياة.. ليس لأنه عاش بداياته محروماً- مثل معظمنا - بل لأنه كان يري أن الحياة نعمة من الله علينا أن ننهل منها..
تلك كانت بدايات علي سالم.. بدايات مشواره الفني الطويل الذي وضعته ضمن كوكبة أفضل كتاب للمسرح منذ الستينيات.. وهو الذي كان يذهب معنا - من دمياط إلي رأس البر - مشياً علي الأقدام وهي مسافة 16 كيلو متراً.. ولكنها كانت أفضل «فسحة» لا تكلفنا شيئاً.. رحم الله ناظر مدرسة المشاغبين رفيق النضال والكفاح: علي سالم.