الأهرام
د/ شوقى علام
قاعدة التيسير وفريضة الحج
تكاليف الشريعة كلها تدعو إلى الخير والصلاح، وتثمر عن تهذيب السلوك الإنسانى والرقى الحضارى الذى يجعل الإنسان يتعايش ليس مع بنى الإنسان، بل مع الكون كله وما فيه.
ويسرى هذا المعنى فى كل الأوامر والنواهى والشرعية، وهذا المعنى واضح كل الوضوح فى العبادات التى قصد منها فى المقام الأول ترقيق القلوب وتهيئة النفوس بما يجعل المسلم متناغمًا مع من حوله من الإنسان والحيوان والنبات والجماد، وأنه فى مفهومه أن الكل مسبح لله تعالى حالًا أو مقالًا أو بكليهما، وهو علم دقيق تحجبه الأغلفة التى تحيط بالقلوب والعقول، ويدل عليه التعبير بفعل »لا تفقهون«، ولم يقل: »لا تعلمون«، قال تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍإِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا[الإسراء: 44]، وغير ذلك من الآيات الكثيرة الدالة على هذا المعنى.
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم حيث استشرف المدينة راجعًا من غزوة تبوك: «هذه طابة، وهذا أحد، وهو جبل يحبنا ونحبه» (متفقٌ عليه)، وعن عليٍّ رضى الله عنه قال: »إن المؤمن إذا مات بكى عليه مصلاه من الأرض ومصعد عمله من السماء، ثم تلا , فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين, «(الأحاديث المختارة للمقدسي:741).

والإسلام فى حثه على هذا التناغم قصد معه تحقيق الامتثال فى أداء التكاليف الشرعية، ولم يقصد إعنات الناس ولا إرهاقهم، فلم يشرع سبحانه ما فيه حرج ومشقة فوق طاقة البشر، وإن كان يلوح فى التكاليف الشرعية صورة المشقة والعسر، لكنها تحمل فى طيها من المصالح ما يدل على أن الله أراد بها رياضة النفس بطريقة سليمة، فقال تعالى فى حكمة تشريع الصوم والرخصة للمريض والمسافر بالفطر: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ[البقرة: 185] وقال تعالى مبينًا احتواء دين الإسلام لأصول ملة إبراهيم عليه السلام، وهى أصول الفطرة، والتوسط بين التطرف والتساهل: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78].

وفى ذلك كله إثبات أن الكون كله فى تناسق مع المؤمن، وهو المعنى الذى قصده الشارع من الحج من ذكر الله تعالى.

ويأتى الحج كعبادة جامعة لمعنى العبادات كلها من الصلاة والزكاة والصوم، فضلًا عن الإقرار بالربوبية، ومن ثَمَّ فهو جامع لكل خصال الخير.

ويأتى موقف النبى صلى الله عليه وسلم فى حجة الوداع بمنى للناس يسألونه، فجاءه رجل فقال: لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح؟ فقال: «اذبح ولا حرج» فجاء آخر فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي؟ قال: «ارم ولاحرج» فما سئل النبى صلى الله عليه وسلم عن شيء قدم ولا أخر إلاقال: «افعل ولا حرج»(متفقٌ عليه)، ليمثل المبدأ العام فى رفع الحرج عن المسلمين فيما يفعلونه من تكاليف الشريعة ما دام الامتثال كان رائدهم، لأن الأساس فى الإسلام إنما هو عمل القلب، وما كانت الجوارح إلا كاشفة عما فى القلوب وبرهانا عما وقر فيها، فإذا خلصت النيات صلحت الأعمال، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن فى الجسد مضغة، إذا صلحت، صلح الجسد كله، وإذا فسدت، فسد الجسد كله، ألا وهى القلب»(متفقٌ عليه).

وقد سرت قاعدة التيسير المأخوذة من قوله صلى الله عليه وسلم:«افعل ولا حرج» فى الفتاوى التى خففت عن المسلمين كثيرا فى أداء هذه الفريضة فى الوقت المعاصر مع وجود الزحام مما اقتضى التيسير المبنى على الموازنة بين المصالح المتعارضة من أداء العبادة على وجهها ومصلحة حفظ الأنفس المقدمة عليها فى هذه الحالة.

ومن ذلك فتوى دار الإفتاء المصرية بجواز الرمى بعد منتصف الليل لكل الجمرات بدءًا من جمرة العقبة الكبرى التى يرميها الحاج يوم النحر ثم الجمرات الثلاث التى ترمى فى أيام التشريق، وذلك أخذًا من مذهب الشافعية.

كما جاءت الفتوى أيضًا بجواز طواف الإفاضة من بعد منتصف ليلة النحر أخذا من حديث السيدة عائشة رضى الله عنها، قال: «أرسل النبى صلى الله عليه وآله وسلم بأم سلمة ليلة النحر، فرمت الجمرة قبل الفجر،ثم مضت فأفاضت« رواه أبو داود. وهكذا يأتى هذا القول الكريم :«افعل ولا حرج« ليؤكد هذا التناغم بين الامتثال والقدرة على أداء التكليف ومراعاة أحوال الناس والمجتمعات.

كما يؤكد أن الإسلام دين راقٍ فى تعاليمه ونظامه، فهو يهدف فى العبادات الشرعية إلى أدائها بطريقة تحفظ على المكلفين أمنهم وراحتهم وسلامتهم، ويقدم المصلحة العامة فى ذلك على المصلحة الخاصة، ولا مانع من ترك التقيد ببعض المذاهب الفقهية إذا كانت المصلحة فى غيرها، كما قلنا فى الرمى مثلا؛ إذ فى التقيد بأدائه فى بعض الأوقات دون بعض مشقة كبيرة على الحجيج، ومن القواعد الشرعية المقررة أنه «إذا ضاق الأمر اتسع.

مفتى الجمهورية
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف