من أروع ما أبدعه شوقى عن الأخلاق، قيمة ومكانة وآثاراً، هذا البيت الشهير الذى نحفظه ونردده جميعاً: «إنما الأمم الأخلاق ما بقيت**فإن هُمُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا»، وأيضاً قوله: «وليس بقائم بنيان قوم**إذا أخلاقهم كانت خرابا»!.. حقاً، تعتبر قضية الأخلاق من أهم وأخطر القضايا فى حياة الفرد والمجتمع والدولة، خاصة أنها ترتكز عندنا نحن المسلمين على الإيمان بالله تعالى، وليس على فلسفات مادية أو بشرية.. والذى ينظر إلى أحكام الشريعة الإسلامية، من عبادات ومعاملات وأخلاق وآداب، يجدها مرتبطة بشكل وثيق بالإيمان.. يقول ابن مسعود: إذا قرأتم فى التنزيل يا أيها الذين آمنوا، فاعلموا أن ما يتلوه من فصل الخطاب إما أمر يجب امتثاله أو أمر عن نهى يجب اجتنابه.. إن الإيمان هو أُس الفضائل، ولجام الرذائل، وسكن النفس إذا ما أوحشتها الحياة.. لذا، إذا وجد الإيمان الحقيقى، وجد معه الوازع القوى الذى يأخذ بيد صاحبه إلى العُلا، فهو لا يكذب، ولا يخدع، ولا يغش، ولا يخون، ولا يجور، ولا يسرق، ولا يتدنى، ولا يرتشى، ولا يهمل، ولا يتكاسل، ولا يأخذ ما ليس له حق فيه.. بل هو الصادق فى قوله وفعله، العادل فى حكمه ومواقفه، المحسن حتى إلى من أساء إليه، الهيّن الليّن مع كل من حوله، السمح العطوف على كل من يتعامل معه، الإيجابى دائماً تجاه قضايا مجتمعه، المتوكل والآخذ بأسباب العلم والتقدم.. وهو إذ يفعل ذلك ليس خوفاً من قانون أو رقابة من إنسان، حاكماً كان أو مسئولاً، وإنما خوفاً من خالقه ومولاه الذى «يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ» (غافر: ١٩)، ورغبة فيما عنده سبحانه «الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (الملك: ١)، وإرضاء له تعالى الذى «بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ» (المؤمنون: ٨٨)، وتنفيذا لأوامره جل وعلا الذى « لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ»(القصص: ٨٨).. فى كتابه «مائة سؤال عن الإسلام»، يقول شيخنا الغزالى: «هل أستطيع وصف رجل يخاف الناس ولا يخاف الله، ويسترضى الناس ولا يسترضى الله، ويتوكل على الناس ولا يتوكل على الله، هل أستطيع وصف هذا المخلوق بأنه مسلم؟» ثم يقول: «وهناك جملة من أخلاق تقوم على محو النفاق وتزكية السريرة وتنضبط بها الأعمال والأحوال، نبّه إليها النبى العظيم الذى قال بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق، إنه أحصى أمارات النفاق فى الكذب وخلف الوعد وخيانة الأمانة ونكث العهود والفجور فى الخصومة! ماذا يقول المسلم إذا كانت مجتمعات أخرى أحرص منا على الصدق والأمانة والوفاء والسماحة؟»..
فى مجتمعنا العربى والإسلامى، لكى تؤتى السياسة - بمفهومها العام - ثمارها المرجوة، لا بد لها من أخلاق، تستمد قوتها وصفاءها وبهاءها من الإيمان.. لكن للأسف، هناك من يريد تجريد السياسة منها، حيث إنها - كما يقولون - عمل قذر dirty work، يعتمد فى الأساس على منظومة قيمية هابطة؛ مثل الكذب والغش والخداع والمناورة والتضليل.. إلخ. والسياسة فى هذه الحالة تؤدى إلى هدم المجتمع وتخريبه، لا إلى بنائه وتعميره، إلى هبوطه وتخلفه، لا إلى رقيه وتقدمه، وإلى تفككه وضعفه، لا إلى تماسكه وقوته.. نريد أن نمارس السياسة من الباب الأخلاقى، واعتبار المواطنة هى الأساس.. بمعنى آخر، نريد سياسة على أسس نظيفة وقواعد أخلاقية سليمة، يتساوى فيها الجميع أمام القانون، ولا يساء فيها استغلال المال أو السلطة (أو هما معاً) لمصالح أو أغراض ذاتية.. وإذا كانت تجربة «الإسلاميين» فى المجلس التشريعى، وفى الحكم، مخزية ومخجلة، فضلاً عن أنها تركت آثاراً مدمرة، وصورة ذهنية سيئة لدى الكثيرين، فقد كان ذلك بسبب عدم التزامها بأية معايير أخلاقية.. إن النفس الإنسانية يوم تكون نظيفة والقلب نقياً طاهراً، والإنسان موصولاً بالله، ثقافة وأخلاقاً وسلوكاً، لن تجد قمامة فى الشوارع وعلى النواصى، ولا فساداً ينتشر فى مجتمعنا كما النار فى الهشيم، ولا تخلفاً علمياً أو تقنياً، ولا فشلاً تعليمياً أو تربوياً، ولا انهزاماً أو يأساً أو إحباطاً نفسياً، ولا أنانية أو انتهازية أو مداهنة أو تملقاً سياسياً.. شخصياً، لى مآخذ على حزب النور السلفى، لكنى لست مع من يقودون حملة ضده تحت عنوان: «لا للأحزاب الدينية»، وأرى أنها حيلة العاجز.. وبنظرة إلى الأحزاب وما يحدث فيها وفيما بينها من انقسامات، فضلاً عن ضعف وهشاشة بنائها الداخلى، وعدم تواصلها مع الجماهير فى المدن والمراكز والقرى والكفور والنجوع، علاوة على غياب التربية والتنشئة السياسية لإفراز «كوادر» ورموز قادرة على الابتكار والإبداع والإقناع، يمكن إدراك صدق ما أقول.. ولو أنهم عكفوا بهمة ونشاط على استدراك ذلك، لكان أفضل وأجدى لهم بخاصة وللعمل السياسى بعامة.. لكنهم للأسف، لجأوا إلى الحل السهل.. كل عام وأنتم بخير.