صورة فولكلورية شعبية رائعة أعيشها- وأحن إليها - منذ 75 عاماً وأكثر!! تلك هي «مظاهرة الماشية» من أبقار وجاموس وأغنام وكانت تستمر لمدة يومين، هما يوم وقفة عيد الأضحي واليوم الذي يسبقه..
كان كل الجزارين - بدمياط - يتسابقون في تنظيم «مسيرات» لكل هذه المواشي تطوف كل شوارع المدينة.. تسبقها فرق الموسيقي النحاسية، وبالذات فرق الفناجيلي - مع الطبل والزمر.. وكان هدف هذه المسيرات- التي كانت دائماً ما تخترق حتي شوارع الحواري الكبيرة وفي أحياء المدينة، فقيرها قبل أغناها.. كان الهدف أن يقدم هؤلاء الجزارون أفضل ما عندهم من جاموس، وأبقار، وماعز، وأغنام، وكانوا يجملونها بالزهور والورود وأغصان الاشجار وبالذات سعف النخيل، إذ إن هذا السعف هو من رموز الحياة، عند المصري منذ آلاف السنين..
<< وكانت هذه المسيرات تجتذب كل الاطفال والصبية والفتيان، ويزداد طول هذه المسيرات من الاطفال بمرورها علي الاحياء الشعبية وكان الجزارون يهتفون - ونحن وراءهم- وهم يشيرون إلي مواشي المسيرة: بالعين.. يعني «علي عينك ياتاجر» أو بالأصح علي عينك يا من ترغب في الشراء.. أي أن هدف المسيرة أن يعاين الناس «بعيونهم» كل هذه المواشي ليختاروا منها ما يريدون وبعد كلمة «بالعين» كان يأتي الهتاف «يا الله السلامة» يعني سلامة من يعاين «بعيونه» ومن يشتري.. ومن يأكل بالسلامة وبالهنا والشفاء..
ولكن الهتاف الأكثر ترديداً كان هو الخلاصة.. كان يركز علي القول «ومن ده بقرشين» أو كله من ده بقرشين، أي أن «أقة» اللحم بقرشين صاغ لا أكثر.. يابلاش، والأقة زمان تساوي الآن كيلو وربع كيلو جرام.. أي أن ثمن الأقة مجرد قرشين.. يا بلاش..
<< وبحسبة بسيطة نقول إن متوسط سعر الكيلو الآن من اللحم هو 100 جنيه، وتعالوا نحسبها بأسعار 75 عاماً إلي الوراء.. الأقة بقرشين، الآن الكيلو - وهو أقل - بحوالي 100 جنيه أى 10 ألاف قرش.. وبحسبة بسيطة فإن القرشين بتوع زمان تشتري 5000 كيلو جرام، هل تصدقون؟!
والدمياطي - زمان - كان يفضل شراء اللحم الجاموسي بسبب كثرة قطعان الجاموس في دمياط وما حولها من أراض زراعية وللعلم فإن الجاموس الدمياطي دخل موسوعات علوم المواشي العالمية ومسجل باسم دمياط، وهو أفضل من الجاموس الهندي أو جاموس حوض نهر الميكونج في الهند الصينية زمان وبسبب وجود الجاموس بدمياط، أصبحت دمياط هي صاحبة اختراع أفضل جبن ابيض في العالم كله.. وكنا ونحن صغار نتسابق لنحمل «قسط اللبن» من منطقة غيط النصاري شرق مدينة دمياط لتصنع منه الأمهات أفضل جبن أبيض تذوقه في العالم.
<< ويأتي لحم البقر في المرتبة الثانية بعد الجاموسي.. حتي وان كان سعره أغلي، وللدمايطة عشق خاص بلحم «الجدي» أي ذكر الماعز.. بل إن المؤرخ العربي الشهير عندما زار دمياط ذكر أن «كلابها» ماعيز الكثرة ما وجد بها من المعيز.. ولقدرة الجدي والماعز علي أكل أي شيء.. أي تقوم الماعز بتنظيف الشوارع مما بها من مخلفات.. وبالطبع فإن أفضل كفتة وكباب هي من النيفة.. وأفضل النيفة، مايصنع من لحوم الجدي!! وهو أكبر من لحوم إناث الماعز.. علي الأخص ما تجري له عمليات «إخصاء»!!
<< والدمياطي - زمان- لم يعرف أو يأكل أو يطلب لحوم الجمال حتي ولو كانت من البعير، أي صغيرة السن «أي البعرور» ربما بسبب كثرة الجاموس والبقر والماعز بالمنطقة، ولهذا لم نجد في مسيرات هذه المواشي، وبالذات يوم الوقفة- جملاً واحداً!! ربما لأن الدمياطي يعشق لحوم البط بأنواعه: البلدي والسوداني والمرجان والمهاجر منها من شمال اوروبا مع السمان والبلبول والشرشير والغز والحمراي والزرقاي والخضيري - وهو الأكبر حجماً وإن كان البلبول هو الألذ.. لحماً، ثم إن الدمياطي - بعد البط- يمكن أن يأكل سمكاً طوال أيام الاسبوع.. أما اللحم فهو أقل ما كان يطلبه الدمياطي زمان.. ومازلت محافظاً أنا شخصياً علي هذا السلوك الغذائي..
<< أقول وحشتني مسيرات وقوافل المواشي الجاهزة للذبح منذ 75 عاماً، وكنا نسخر من بعضنا البعض.. كنا نهتف أيضاً بعفوية شديدة فيها.. «بكرة العيد ونعيد .. وندبح الشيخ سيد!!» وكنا نزف كل هذه المسيرات بعد الطوف بها في كل الشوارع والحواري.. حتي نصل إلي المسلخ أو المجزر.. أو السلخانة ونعود إلي بيوتنا - آخر النهار - مهدودين..
وأتذكر هنا أن كانت والدتي تعاني من مظاهر ميلاد أخي السيد وارسلتني لكي أخبر والدتها - جدتي - لكي تحضر لتقف معها لحظة الميلاد.. وانطلقت من بيتنا بحي القنطرة إلي بيت جدتي بحارة البركة بجوار جمرك دمياط.. وفي الطريق - وكنا يوم الوقفة - جرفتني مسيرة من هذه المسيرات فانطلقت وراءها اهتف مع الهاتفين: بكرة من ده بقرشين.. وبكرة العيد ونعيد... وندبح الشيخ سيد، ونسيت أمي وآلام الوضع وعندما عدت بعد العشاء.. كانت أمي قد وضعت شقيقي السيد.. ولكنني تلقيت علقة ساخنة شديدة علي إهمالي..
<< تري هل مازالت مسيرات الماشية هذه تطوف شوارع دمياط.. أم أصبحت صوراً من.. التاريخ، ورغم ذلك مازلت أحن إلي هذه الأيام.. واللحمة أم قرشين!!
وكل لحمة.. وانتم طيبون!