الوطن
نائل السودة
حماية الجهلاء العميان الصم البكم
لو أن أحداً من القاعدين فى الشارع على مقهى سأل أين هى الجميلة ذات الرداء الأحمر التى تتحدثون عنها، لسمع إجابات مختلفة: إنها خلفك، ويرد آخر ها هى أمامى، ويقول ثالث إنها على يسارى، ويقول آخر إنها على يمينى.

الجميع صادقون وإجاباتهم طبيعية وحقيقية من وجهة نظرهم ومن مكان جلوس كل قائل فيهم، هذه هى النسبية. الجميع قال رأيه من موقعه وبعينه. إنه أمر يشبه لو سألت أحدهم أين مصلحتك ورزقك وعملك؟ سوف تتلقى إجابات مختلفة، بعضهم سيقول إنها فى الشارع أو فى المكتب أو بالمصنع وبعضهم قد يراها فى الصباح الباكر أو فى الليل المظلم وقد تتفق جماعة منهم.

ولو أنك سألت هؤلاء الجالسين: هل نحن قاعدون ثابتون أم متحركون؟ لكانت أغلب الإجابات هى أننا ساكنون ثابتون إلا من كان له علم أن الأرض تتحرك حول الشمس وأن الأرض والشمس تتحركان داخل المجرة والجميع يتحرك فى الكون، والجالسون ليسوا ثابتين إلا بالنسبة للأرض ولكراسى المقهى! وليس بالنسبة للكون الذى صرنا معه على علاقات خارجية وعلمية نرسل له ونتلقى منه.

هذه النسبية أخلت باعتقادات الدينيين عموماً وعلى رأسها مركزية الأرض على ما عداها وثباتها، وليس غريباً أن مشايخ الكنيسة قد أعدموا من العلماء من قال بخلاف رأيهم وما زال مشايخ مسلمون يحرّمون القول بعدم ثبات ومركزية الأرض.

لقد كان لهذا الاكتشاف الثمين بحركة الأرض وكونها مجرد كوكب من الكواكب أثره فى الفكر الإنسانى الفلسفى والدينى والسياسى كما كان لظهور البروتستانتية التى قلصت دور رجال الدين المحتكرين للحقيقة وللجنة وللنار مع ظهور أفكار فلسفية وسياسية حجمت من سلطات الملوك الديكتاتوريين الأحادية وصار الملوك ورجال الكنيسة أهدافاً للجماهير التى هتفت بقتل كليهما فى الثورة الفرنسية.

إن هذه النظرية العلمية -النسبية- هى فكرة الديمقراطية، فالجميع يرى ويحدد موقع الأشياء من خلال نفسه إن صواباً أو خطأً، والجميع له مصلحة تختلف أو تتفق مع الجميع، الجميع متساوٍ، ربما ينطلقون من نقطة واحدة أو نقاط مختلفة فتلتقى أو تتعارض ولكن الديمقراطية تنظم هذا الاختلاف فى مؤسسات تضمن تحقيق المساواة والنظام والتعدد وتنفى الفوضى والتجاهل، فالذى رأى السيدة ذات الرداء الأحمر من اليمين له الحق أن يفصح عما رأت عيناه كمن رآها من اليسار.

إن هذا ما سيفتح آفاقاً للرؤية أكثر ومنافذ للتفكير والعقل مما سيزيد التطلعات والمطالب، وهى مما لا حول للدينيين أو الديكتاتوريين والفاشيين لتلبيته لأنهم يريدون الانفراد بالرأى وبالسلطة وبالفعل، ويعملون وحدهم بعدما نقِم المبعدون عن الرؤية والتفكر والعمل.

ويعمد أعداء الطبيعة والحقيقة هؤلاء إلى اتخاذ الوحدة أو الجماعة ليس شعاراً عاطفياً براقاً فحسب بل هدفاً استراتيجياً يلزم تحقيقه بالقهر والعنف والإجبار والتعذيب بل والقتل، لكى لا يرى أحد من مكان ما أو من زمان ما غير ما يراه الديكتاتور أو شيخ الجماعة الدينية.

إنهم يريدون تثبيت المتحرك، ويريدون توحيد المتعدد، ويريدون إغلاق السمع وغض البصر، ويسدون بذلك كل منافذ الرؤية بدءاً بحجب المعلومات ومنع النشر والمعرفة واعتبار كل أمر سراً كهنوتياً أو قومياً ومروراً بالقهر، ليمنعوا من المنبع كل اختلاف فى التفسير، ثم يدّعون أن الذى يحكم هو وحده الذى يعلم الحقيقة وغيره لا يعلمون، ومغرر بهم، وأنه الذى يرى وغيره عميان، وأنه صاحب الحق بالتالى فى الفعل وفى السلطة سواء كانت سياسية أم دينية حماية للجهلاء العميان الصم البكم.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف