سكينة فؤاد
هل عطش «فيصل» إنذار بعطش مصر؟
العطش الذي تصورنا أنه يهدد سكان منطقة فيصل فقط، كشف برنامج «العاشرة مساء» الثلاثاء الماضي في حلقة تمثل وثيقة إدانة بالصوت والصورة لكل مسئول عن أحوال المياه، فكثير من محافظات مصر شمالها وجنوبها يعانى العطش ـ ليس البشر وحدهم ـ الأرض والزرع والحيوان أيضا، أما التصريحات المتناقضة التي أطلقها مجموعة من المسئولين فكشفت عن حالة استهانة بعقل المواطن وحقه في كوب ماء نظيف، وحقه في أن يفهم ويعرف، وتقدم له معلومات حقيقية عن أي أزمة يتعرض لها والإجراءات التي ستتخذها الدولة للعلاج، ودون أن يضطر الي أي شكل من أشكال الغضب للفت الأنظار الي أزمته.. المسئول الذي ينتظر انفجار الأزمة ليبدأ في تقديم التبريرات والتفسيرات لا يصلح أن يستمر في مكانه، كشفت أزمة العطش أيضا عن حالة مؤسفة من الفوضي وغياب مؤسسات الدولة، تركت العشوائيات تتمدد كأنه لم تكن هناك محليات تقبض أثمان هذا التمدد الذي يقدم كواحد من أسباب ضعف محطات المياه عن استيعاب التضخم السكاني، الذي ترتب جزء كبير منه علي إهمال الثروة البشرية والتنمية في الريف، وانتشار البطالة واضطرار أبناء القري الي النزوح الي المدن الأقرب للبحث عن فرص غير موجودة لحياة أفضل.. ورغم محاولات التهرب من المسئولية وتعليقها في رقاب المواطنين، تسربت الاعترافات بانخفاض منسوب المياه في النيل 90 سنتيمترا خلال الأسبوع الماضي ـ لم يتحدث مسئول عن الأسباب، وكيف يتم تقنين احتياجات البشر والأرض والزرع ـ استغاثات المواطنين في المدن والقري كما قدمها «العاشرة مساء»، جمع بينها احساس مرير بعدم مبالاة المسئولين بمعاناتهم واحترام آدميتهم وحقوقهم الإنسانية.. أخطر ما كشفت عنه الأزمة أن العطش القادم يهرول ناحية مصر ـ شعبا وأرضا وزرعا وحيوانا ـ إدارة أزمته تبدو بين أيد ليست علي مستوي خطورة الأزمة التي يجب تناول جميع أبعادها وإيقاف خطايا إخفاء الحقائق ـ مسئول بوزارة الري حاول أن يتنصل من المسئولية ويعلن أن وزارته لا علاقة لها بها، رغم أن محافظ الجيزة صرح في المصري اليوم «الثلاثاء 22/9» بأنه تم التوصل مع وزير الري والأطراف المعنية ـ لم يحدد هذه الأطراف ـ وأيضا تم التوصل مع رئيس مجلس الوزراء واتفقوا علي أن تفتح وزارة الري المياه، في محاولة لرفع المنسوب وحتي تعود المياه الي المحطات، ومن ثم تضخ للأهالي في الشبكات!! وأوضح محافظ الجيزة أن وصول المياه للمحطات والشبكات قد يستغرق أربعة أيام، وأضاف المحافظ توضيحا للأمر، «اننا لو بنملي بانيو شوف بياخد أد إيه انما دي بقي محطة مية»، لم يجد المحافظ من يسأله لماذا لم تخرج وتعلن حقائق الأزمة والتخفيض والأسباب ليشاركوا في الحلول وتخفيض الاستهلاك بدلا من أن يعيشوا علي نقاط مياه قد تتسرب أو لا تتسرب في الفجر، وبدلا من توزيع المياه في ثاني أكبر محطات مصر ـ محافظة التاريخ ـ بالسيارات التي يشكو الناس في الريف من المياه غير النظيفة التي تأتيهم، نرجو ألا يلحق قريبا توزيع المياه بالسيارات عودة السقا يحمل بالقربة المياه الي البيوت!!
وبينما يستمر الغموض والتناقض في تصريحات المسئولين كأن المياه والعطش وري الأرض والزرع واستمرار الحياة قضية لا تخص كل مصري! تغيب أيضا الحقائق والمعلومات الدقيقة عما وصلت إليه أوضاع وأزمة سد النهضة والتأثيرات القريبة والبعيدة المتوقعة، ومحاولات التهوين والتقليل من حجم ما يمكن أن تتعرض له مصر ، وكلام ساذج عن الفصل بين أضرار المشروع والهيكل الخرساني!!
< إن لم يكن ما يحدث من عطش اضطر المواطنين لغير المقبول من قطع للطريق مثل غير المقبول من قطع المياه والحياة عنهم، لسد النهضة مسئولية عنه، فهل هذا ينفي اقتراب أزمة وجود إن لم يتم ادارتها إدارة رشيدة علي أساس احترام المصالح المشتركة لإثيوبيا والسودان ومصر، فالقادم شديد الخطورة »الثلاثاء 22/9« نشر موقع صدي البلد أن مصدرا مسئولا بوزارة الموارد المائية صرح بأن سد النهضة سيؤثر علي الزراعة بمصر بصورة خطيرة، موضحا أنه سيتسبب في تبوير 5 ملايين فدان، وقال المصدر في تصريحات خاصة لصدي البلد، إن ذلك سيحدث فور الانتهاء من بناء السد، إلا أنه حاليا تم الانتهاء من 50% من الإنشاءات، وأضاف أن د. حسام مغازي وزير الري دعا الي جلسة عاجلة بين الدول الثلاث والمكتبين الاستشاريين في محاولة لتوفيق الأوضاع بينهما بعد الاختلافات التي تسببت في انسحاب المكتب الهولندي لاستئناف عملية المفاوضات وتقديم العروض الفنية، وأشار الي أن المفاوضات ستستغرق شهورا لإعادتها الي مسارها الصحيح وضرورة ايجاد بدائل قويةبدعم من دول العالم المؤيدة لأحقية مصر في المياه.
< لماذا لم يوضح الوزير والجهات المسئولة عن المياه ما هي البدائل القوية المقترحة وماذا فعلوا لاستخدامها في معالجة الأزمة، وما هي السياسات التي اتخذتها الوزارة لترشيد الفاقد من مياه النيل، الذي قيل انه يصل الي 40%، وما هي الخطط التي اتخذت بين الري والزراعة لتغيير طرق الري والأخذ بطرق الري الحديثة، خاصة في الأراضي الزراعية الجديدة وللحفاظ علي المياه الجوفية، خاصة خزان الصحراء الغربية؟ مازلت أذكر ما كتبت عن مأساة «عين كفارة» وضياع مياهها العذبة في الصحراء وتبادل الاتهامات بين الزراعة والري من تبديد واهدار هذا الكنز من المياه مثل غيره من كنوز العيون والبحيرات التي ردمت المساحات الأكبر فيها ودمر التلوث أغلب ما تبقي منها!
< الذين يستغربون من تمدد وتمادي واستقواء الفساد، عليهم أن يسألوا : هل حوسب مسئول واحد شارك بأي شكل من الأشكال في هذا التدمير، خاصة ما يرتبط بأهم وأخطر المقومات التي حفظت الحياة في مصر وهي مياه النيل.. وزراء الري الذين تعاقبوا منذ التسعينيات هل لا علاقة لهم بأزمة سد النهضة؟! ألم يعتبر البنك الدولي منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي مصر من أفقر الدول وتقع تحت خط الفقر المائي، هل تمت إدارة السياسات المائية والزراعية وفق هذه المخاطر والمهددات..؟! وهل استطعنا أن نصنع وعيا بالأزمة يعدل في أساليبنا في الإسراف في استخدام المياه واذا كان منسوب المياه في النيل عندما انخفض 90 سنتيمترا خلال الأسبوع الماضي، هو الذي أدي كما قيل الي ضعف المياه في المحطات، ولدرجة أن محطة امبابة لم تكن بها نقطة مياه! وكشفت الأزمة عن أنها أكبر من حدود منطقة فيصل وأن العديد من القري والمدن يعاني الناس والزراعات والحيوانات العطش فيها.. وهل ستتحمل العطش والحرمان من المياه حمامات السباحة وملاعب الجولف الفاخرة؟!! وهل وفرنا للفلاح بعد طول معاناته أجهزة إرشادية أمينة عليه بدلا من جمعيات نهب الفلاحين وسرقتهم وتبوير الأراضي الزراعية وبيعها للبناء فوقها!!
< في أوراقه التي لم تكتمل ونشرها شقيقه د. عبدالحميد صالح حمدان بعنوان «مذكرات في الجغرافيا والسياسة»، يحذر عالم الجغرافيا وشاعرها وأستاذها د. جمال حمدان، من أزمة صراع تدار حول مياه النيل بدلا من حُسن ورشد الإدارة بين الدول الشريكة ـ يقول وأحاول أن أخفف من حجم خطورة أو سواد المشهد الذي توقعه اذا لم يجد الإدارة الكفء القوية الرشيدة للأزمة، كانت مصر سيدة النيل، الآن فقط انتهي هذا الي الأبد وأصبحت شريكة محسودة ومحاسبة ورصيدها المائي محدود وثابت وغير قابل للزيادة، إن لم يكن للنقص.. ولت أيام الغرق وبدأت أيام الشرق وعرفت الجفاف لا كخطر راجع ولكن دائم ـ الجفاف المستديم بعد الري المستديم.. في الوقت نفسه بلغ سكان مصر الذروة غير المتصورة علي الإطلاق، وهكذا بينما القاعدة الأرضية والمائية الي انكماش أو ثبات أو انقراض وصل الطفح السكاني الي مداه ولم يبق سوي المجاعة، وبقي عامل السكان الذي تعدي إمكانات الأرض فحسب وانما تقلصها بقدر ما يتوسع إسكانا في المدن والقري والطرق، حتي سيأتي اليوم الذي تطرد فيه الزراعة تماما من أرض مصر لتصبح كلها مكان سكن دون مكان عمل ـ أي دون زراعة.. أي دون حياة.. أي موت!!
< تتفق وتختلف مع رؤية العالم الكبير.. المؤكد أن المهددات خطيرة.. وأيضا الحلول والانقاذ بكل ما وهبت مصر من فيض إمكانات وثروات.. فقط قضايا المصير والوجود يجب أن تكون بين أيد وخبرات وكفاءات علي قدرها، وألا تكون بين أيد تجعلها تهدد الحاضر والمستقبل، كما كشفت أزمة عطش «فيصل» والعديد مما عرفنا ولم نعرف من قري ومدن مصر.