لم يشفع لوزيرة الهجرة مشيتها «العسكرية»، الخالية من أي تلميح بأنوثتها، ، مثلها مثل أي امرأة، قررت أن تلبس «نص كم»، في حر الصيف، لكن الغواية نائمة في عيون الناظرين
من يريد أن يفهم متي بدأنا نتغير جذريا عليه أن يحدد بالضبط اللحظة التي قال فيها لمحدثه علي الموبايل: «مش سامعك، صوتك بيقطَّع»، وهي اللحظة نفسها التي اضطر فيها، هو أو محدثه، أن يتحرك من النقطة التي يجلس فيها إلي الشرفة مثلا، كي يستطيع أن يلتقط الرسالة واضحة، معتذرا عن خطأ لم يرتكبه: «معلش، الشبكة واقعة». كثيرا ما يجد متلقي المكالمة في خطأ وقوع الشبكة فرصة لقطع مكالمة مضجرة له، مغلقا هاتفه المحمول، ومطمئنا إلي أن الشبكة ستنوب عنه، دون حرج، في إنهاء باقي المهمة، بالرسالة الشهيرة: «هذا الرقم مغلق، أو غير متاح»، الشيء نفسه ينسرب إلي الإعلام لتصبح جملة: «عفوا فقدنا الاتصال»، مبررا للتنصل من إكمال المتصل بالقناة رأيه المغاير لتوجهاتها، محملة «الشبكة» عبء اتهامها بالرأي الواحد. التغير الجذري الذي أشرت إليه يكمن في هذه النقطة تحديدا: نقطة التحول من ثقافة الوضوح حين تلزمك بأن تقول لمحدثك: «آسف لدي ما أقوم به وسأضطر لإنهاء المكالمة»، إلي نوع من «الكذب المجتمعي»، واستشراء ثقافة تحميل كيان مجهول ما، غيرك، مسئولية ما حدث، ولأنني من أولئك البشر الذين يظنون أن السلوك اليومي هو الذي يحدد المبادئ والأخلاقيات لا العكس، أعني أن ممارسة المبادئ هي ما يحدد معناها الفعلي، فقد استوقفني ما ألمح إليه الإعلامي أحمد موسي من ارتداء وزيرة الهجرة «نص كم» أثناء حلف اليمين أمام رئيس الجمهورية، مضيفا - علي طريقة الشبكة واقعة- أنه واثق من أن الرئيس «لقط» -علي حد تعبيره- الخطأ البروتوكولي، واستاء منه، معيدا اللقطة عدة مرات كي نتأكد من ملامح وجه الرئيس ومدي علم الإعلامي بسرائره! تبدو الواقعة غير مهمة في ذاتها، لكن تداولها من برنامج إلي آخر، ووضع الوزيرة في حالة «استجواب» مجتمعي، يجعلنا نتخيل عمق استجوابات مجلس الشعب المقبلة، ويجعلنا، وهو ما لا يقل أهمية، نتأمل الانتقال من ثقافة «النص كم» إلي ثقافة «التغطية والتمويه»، علي طريقة: «بُص العصفورة»؟! فمن المؤكد أن الإعلامي لم يكن لينطق بهذه الملاحظة لولا تأكده من أن وراءه جمهورا عريضا سيدعمه، لا من أجل حماية «البروتوكول» بالقطع، وإنما من أجل حماية ثقافة ذكورية محافظة تعتبر جسد المرأة، بما فيه صوتها، عورة! ولا يستفزها، بالقدر نفسه، ارتياد الرجال شواطئ مصر بملابسهم الداخلية! لم يشفع للوزيرة مشيتها «العسكرية»، الخالية من أي تلميح بأنوثتها، في لفت أنظار من يشاهدونها بعيدا عن ساعدها الظاهر، مثلها مثل أي امرأة في هذا الوطن، قررت أن تلبس «نص كم»، في حر الصيف، لكن الغواية نائمة في عيون الناظرين، وإن ارتدت مسوح الالتزام بالبروتوكول، أو الأعراف، أو الأخلاق العامة! قبلها بأيام كانت المواقع قد ألصقت صور الوزيرات الثلاث جنبا إلي جنب، ونشرتها بشيء من البهجة باختيار ثلاث نساء يرتدين زيا عصريا، أو بالأحري: «مصريا» كان في الماضي القريب متعارفا عليه، قبل غزو ثقافات التطرف واحتقار المرأة، بل لعله يفوق احتشاما ما كنا نرتديه في الستينيات والسبعينيات، مثلا، بكثير، قبل الغزو التجريفي المباركي، من باب الاعتداد بجمال الجسد لا احتقاره، ومن باب أن العمل هو الطريق الوحيد للمساواة، وأن شرف المرأة لا ينحصر فيما يظهر من جسدها، وإنما في التزامها بمنظومة الشرف حين يتساوي داخلها النساء والرجال، ويصبح الفساد والرشوة..إلخ هي مناط الاختبار والمحاسبة ولفت النظر، لا «النص كم»! وبعيدا عن رأيي الشخصي في تتبع السادة الإعلاميين ملامح الرئيس واستنطاقها، وعلمهم ببواطنها! فإن الأمر لا يقتصر علي مغازلة السلطة، بل يتعداها إلي مغازلة تيارات، يزعم الإعلامي معاداته لها! تضع مكان صورة المرأة «وردة» في برامجها الانتخابية! وإلي تكريس ثقافة «الكذب المجتمعي»، وإغلاق قنوات التواصل بين أجيال من النساء حفظت منظومة الأخلاق، كما فهمتها ومارستها، وأصرت علي وضوح رسالتها، رغم أن التيارات المزدرية لها لا يزال: «صوتها بيقطَع» ولا تزال «الشبكة واقعة»!