خيرية البشلاوى
رنات .. الناقد.. والمهمة الصعبة
حيرة الناقد السينمائي أمام مئات الأفلام المعروضة في مهرجان دولي ليست سهلة.. فكيف يختار وإلي أي معايير يستند؟ انه في مهمة مهنية المفروض. وعليه أن يغطي هذه المساحة الواسعة من الفعاليات السينمائية.. وهو في نفس الوقت باحث عن الجمال والإشباع الروحي.. والأفلام الجميلة والجيدة ليست بالضرورة ضمن الأعمال المختارة داخل المسابقة وإنما في تظاهرات أخري موازية عديدة وثمة مشكلة أخري وهي كيفية اصطياد هذه الأعمال. فأنت أمام عدد كبير من الأفلام. وقد تعلمنا من خلال التجربة ان الاختيارات التي يصل إليها المنظمون للحدث لا تعني توفر صفة الجمال والأهمية الفنية. فربما كانت بعض التجارب مهمة علي مستوي المادة الموضوعية. أي أنها تصور فترة استثنائية في مشوار شعب ما. أو تلتقط لحظة عابرة فاصلة. قد تكون أعمال مضللة وتحتاج إلي إعادة نظر بعد أن تهدأ الأحداث وتتضح أبعادها مثل الأحداث التي هرول صناعها لعمل أفلام عنها وتسجيلها في شرائط أثناء تدافعها مثل بعض الأعمال التي تناولت وصورت ثورات ¢الربيع العربي¢ والتي مولت بعضها مؤسسات ثقافية أجنبية واهتمت المهرجانات بعرضها ومن ثم اكتسبت أهميتها من الحدث وليس من دقة أسلوب التناول وبسبب المستوي الفني الجيد في تصوير الحدث.
ومن الصعب علي الناقد أن يجتزئ تجربة المتابعة أو التغطية المطلوبة بالمهرجانات الدولية فلكل مهرجان شخصية خاصة به وبيئة بعينها يصنعها المكان والجمهور والمكانة الدولية. وطموحات الدولة المنظمة له.. ومن بين الملامح المكونة للشخصية وللحدث السينمائي التوجه السياسي للقائمين عليه.. فلا يوجد مهرجان عالمي متحرر بالكامل من السياسة مهما كانت أغراضه الفنية فإلي جانب الشروط الفنية التي ينبغي أن تتوفر في العمل المشاركة هناك القيمة الموضوعية والأحداث الدولية السياسية التي تفرض نفسها علي نحو مباشر أو غير مباشر علي التظاهرة الفنية الدولية وهناك أيضا العامل المادي الذي يفرض نفسه رغما عن الأعضاء المنظمين وقد يقلص النواحي المظهرية الدعائية التي تكشف عن نفسها في مستوي الحفلات. والدعوات والمطبوعات وحتي ¢الحقائب¢ التي توزع علي الضيوف.
ولا شك أن المهرجان الذي أحضره لأول مرة هنا في مدينة مونتريال يعاني من ضيق الميزانية لو حكمنا علي تفاصيل كثيرة شكلية. وأيضا فنية. فالنجوم العالميون لا يحتلون مكانهم المتوقع علي خشبة المسرح في حفلات الافتتاح والختام وكذلك الأسماء الكبيرة للمخرجين. ومع ذلك هناك أعمال بارزة وقوية من باكستان مثلا مثل فيلم الكرتون ¢باهادور 3¢ "3 Bahadur" ويعرض خارج المسابقة وفيلم مدهش بعنوان "وولف توتم" وهو دراما من الصين للمخرج الفرنسي جان جاك أنود.. إلي جانب تجارب أخري تستحق أن يسلط عليها الضوء.
أين ذهبت الأسماء الكبيرة من مهرجان يفترض أنه أكبر مهرجان في أمريكا الشمالية وانه المهرجان الوحيد الذي يمنح الجوائز في مسابقة دولية من هذه القارة؟
ما يلفت النظر منذ الوهلة الأولي أن المهرجان يتسم بالهدوء الشكلي فهو خال من الصخب والزحام والبهرجة والدعاية اللافتة هنا وهناك ولكن المدينة نفسها تعتبر مسرحا باهرا.
مدينة مهرجانات لعرض الإبداعات الفنية المتنوعة وهي نفسها مدينة ذات طابع لعبت فيه الجغرافيا دورا منحها جمالها الخاص هنا الغابات الكثيفة الكثيرة العدد ولكل واحدة منها طابع وشخصية وهنا جبل ¢مورويال¢ الذي تحمل المدينة اسمه ومعناها ¢الجبل الملكي¢ "Mont Royale" وهنا نهر سان لوران.. ورغم أن هذه المقومات الطبيعية ليست لها علاقة بالسينما ولا بالمهرجان الخاص بأفلام العالم إلا أنها تشكل احد ملامحه وتمنحه طابعا جماليا مميزا.
وما يلفت النظر أيضا أن الجمهور في حفلات الصباح بشكل خاص من الذين أصبحوا علي المعاش. ولكن يبدو أن كلمة المعاش هذه ليست لها نفس الدلالات ولا المعني العقيم الذي يحمله في قاموسنا اللغوي الدراج.. فكثيرات من نساء هذه المدينة العجائز يتحركن بالدراجات ويرتدين الشورت ويضعن المكياج وتحييهم بإعجاب فيرددن عليك بابتسامة وترجاب جميل.. وتجدهن في حفلات المساء واقفات في الطابور الطويل انتظارا لدخول صالة السينما.
مدير المهرجان ومؤسسة - سيرج لوزيك - من مواليد 1931 "84 سنة" وهو يوغسلافي الأصل. ورغم سنه كتلة من النشاط ومصمم أن يبقي مديرا له حتي آخر نفس. فهو أيضا مؤسس معهد الكونسرفتوار لفنون السينما ولديه غرام خاص بالأفلام. وهو رغم عمره المتقدم يمارس مسئولياته بهمة وتجده في ردهات سينما ¢امبريال¢ مثل أي رياضي نشيط.
ولا شك أن المهرجان. أي مهرجان - يكتسب بعضا من صفات مديره فما بالك بمديره منذ تأسيسه 1977 وما بالك بمؤسس ومدير يمتلك ايمانا مطلقا بدور السينما في تجديد طاقة الناس. وأيضا المدينة التي يقام فيها. وإفساحه المجال لما يقرب من اربعمائة فيلم وللعديد من البرامج التي لا يمكن لأي ناقد أن يتابعها جميعا حتي لو تحول اليوم الواحد إلي عدة أيام لا يخلو من دلالة.
المهرجانات تعاني من تراجع الموارد.. وكذلك الناقد الذي يجد حيره في توفير التكلفة والوقت الكافي والعافيه لقطع الرحلة الطويلة جدا للوصول ثم للجري وراء جميع فعالياته ومتابعة مئات الأعمال.