سألت الزميل العزيز الكاتب الصحفي السيد العزاوي.. ما السر الذي جعل المسلمين في أنحاء الكرة الأرضية يعيشون علي أمنية عزيزة هي زيارة بيت الله في مكة المكرمة وأداء فريضة الحج أو أداء العمرة؟
قال: لنرجع إلي سورة إبراهيم في القرآن الكريم الآية 37 حيث جاء فيها ¢ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم.. ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل افئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون¢.
والآية تعني ابتهالاً من سيدنا إبراهيم لرب العالمين بأن يجعل من الناس من يتوق ويتمني ويشعر برغبة جامحة لزيارة مكة المكرمة.. التي كانت وادياً غير ذي زرع.. أما الافئدة فهي جمع فؤاد - والفؤاد هو القلب وقد استجاب سبحانه وتعالي لدعاء سيدنا إبراهيم وزرع الله في قلوب المسلمين حب البيت المعمور.. وأصبح السفر إلي مكة المكرمة هو حلم كل مسلم.. وهذا هو سر الرغبة الجامحة لدي المسلمين في أداء الحج أو العمرة.
فتجد مثلا الفقراء والبسطاء يضعون ¢القرش علي القرش¢ لادخار نفقات الحج.. ويحدثنا التاريخ ان والدة امام الدعاة فضيلة الإمام الشيخ الشعراوي اشتدت رغبتها لأداء الحج وقررت ادخار جنيهين كل أسبوع وخصصت هذا الادخار لهذا الغرض.. كما يحدثنا التاريخ أيضا عن صلاح الدين الأيوبي الذي قرر بعد انتصاره علي ملوك وأباطرة الفرنجة وعقد صلح الرملة أن يسافر لأداء الحج.. ولكن لانه لم يكن يملك النفقات التي تلائم مكانته فقرر التأجيل للعام التالي.. ولكن المنية وافته ولم يؤد الفريضة.
المسلمون بصفة عامة لا يهمهم المشقة ولا التعب أو العذاب الذي قد يلاقونه في هذه الرحلة.. طبعا كانت هذه المشقة زمان حيث لم تكن هناك مواصلات إلا الدواب والجمال.. والمراكب.. ولهذا كانت رحلة الحج تستغرق نحو ستة أشهر بعكس الآن حيث تتوافر المواصلات السريعة والمريحة حتي انه يمكنه أداء مناسك الحج وزيارة الحرم النبوي الشريف في أقل من أسبوع واحد.
وهناك مثال آخر علي الشغف والرغبة الأكيدة في أداء الحج يحدثنا عنها الرحالة والمؤرخ المغربي ابن بطوطة الذي خرج من طنجة بالمغرب في يوم الاثنين 17 رجب سنة 725 هجرية " 1324 ميلادية" قاصدا حج بيت الله في مكة وزيارة المسجد النبوي الشريف.. وكانت مواصلاته في هذه الرحلة.. المراكب والدواب والجمال ومر علي عدة بلاد في شمال افريقيا ثم وصل إلي مصر التي كانت محطة الالتقاء الرئيسية لكل راغبي أداء الحج من أبناء افريقيا المهم ان ابن بطوطة وصل إلي الكعبة بعد عامين.. وقد وقع في يدي كتاب قيم في مجلدين كبيرين ويحمل اسم ¢مرآة الحرمين¢ كتبه اللواء إبراهيم رفعت باشا أمير الحج. 1903 و1904 و1908 وقد ذكر سيادة اللواء في المجلد الأول وصفا شاملا للرحلة منذ صدور الإرادة السنية بتعيين أمير الحج وركب المحمل.. وقد لا يعرف الكثيرون ما هو المحمل.. والمقصود به هو كسوة الكعبة وكانت مصر هي التي لها شرف تقديم المحمل والكسوة.
وكان ركب المحمل في ذلك الوقت يتكون من 473 شخصا وهم ضباط وعسكر وموظفون وتوابعهم والجمالين أي قادة الجمال وقادة الخيول وحاملو المشاعل ويلاحظ أن الكهرباء لم تكن قد استخدمت بعد في مصر أو الحجاز ولهذا كانت تستخدم المشاعل التي تضاء بالزيت بدلا من الكهرباء بالإضافة إلي السقائين والفراشين والزامرين الذين يقومون بالانشاد والعزف علي المزامير.
أما عن تكاليف رحلة بعثة الحج هذه فكانت تعرف باسم ¢الصرة¢ ويتسلمها ابن الصرة بمقتضي اشهاد شرعي رسمي وقد بلغت التكاليف في ذلك الوقت 18 ألفاً و893 جنيها و262 مليما وربع مليم - ولنا أن نتصور كم كانت تكاليف البعثة ضئيلة إذا ما قورنت بالتكاليف الآن.. فهذا المبلغ كان يكفي زمان مرتبات رجال المحمل جميعهم لمدة ثلاثة أشهر وهي المدة المقررة لسفره بالاضافة إلي مرتبات أخري للعربان ولتكيتي مكة والمدينة وجميع النفقات الأخري اللازمة للجمال وعلف الدواب وغير ذلك.
ولنا أن نتصور الفارق الرهيب بين نفقات الحج زمان ونفقاته حاليا.. زمان كان أقل من 19 ألف جنيه تكفي لنفقات البعثة كلها.. أما الآن فإن أقل تكلفة للحاج الواحد هي نحو 29 ألف جنيه.. أما نفقات البعثة فهي طبعا مبالغ خيالية.. بالمقارنة لزمان.
وكانت الاستعدادات للحج تبدأ عادة بعد منتصف شهر شوال وعلي وجه الدقة يوم 27 شوال حيث يتم احضار المحمل إلي وكالة الست ونقل جزء من أحزمتها الحريرية المزركشة بالقصب من مصنعها بمنطقة الخرنفش إلي المطبعة بميدان صلاح الدين بالقلعة وتتابع بعد ذلك وقائع الاحتفالات ثم يتم ارسال المحمل إلي العباسية يوم 25 ذي القعدة إلي محطة سكة حديد العباسية لنقلها إلي السويس بالقطار ثم ينقل بعد ذلك إلي ميناء السويس لتحمله الباخرة إلي جده.
ويقول اللواء إبراهيم رفعت إن الباخرة لم تكن تستطيع دخول الميناء لكثرة الشعب المرجانية فتتولي المراكب الصغيرة مهمة حمل الركاب والبضائع من الباخرة إلي الميناء.. وتتوالي المشقة لنقل المحمل إلي المعسكر الواقع علي الميناء حيث تحمله الجمال بعد ذلك إلي مكة المكرمة وتستغرق الرحلة نحو 36 ساعة.. ومع يوم الخامس من ذي الحجة يتم غسل الكعبة ووضع الكسوة وللشغف بالكعبة والرغبة الأكيدة في التبرك بها.. فإن غسيلها من الداخل والخارج يتم في احتفال فخيم ويتصارع الحجاج علي الفوز بأي قطرة ماء من مياه الغسيل للتبرك بها.
هكذا كان الحج منذ نحو 115 عاما.. لم تكن الدنيا مثل الدنيا الآن وكان الحج بالفعل مشقة كبيرة وعودة الحجاج سالمين تمثل فرحة كبري لدي أهاليهم...
وكل عام وأنتم بخير