احمد السيد النجار
«طريق الحرير» مقابل عواصف «القوارب المسلحة»
طرحت الصين فى الفترة الأخيرة مبادرتها «حزام واحد وطريق واحد» والحزام يشمل الدول النامية والناهضة، أما الطريق فهو طريق الحرير القديم. ومن البديهى أن إعادة إحياء طريق الحرير القديم لا تعنى أن المبادرة مطروحة فقط للدول الواقعة عليه وهى الصين ووسط آسيا والبلدان العربية، بل إنها مطروحة لكل الدول النامية والناهضة حتى المتقدمة التى تقبل باستلهام القيمة الرمزية العظيمة لهذا الطريق الذى يعد إطارا مرجعيا للعلاقات الاقتصادية الدولية القائمة على التعاون السلمى وتبادل المنافع دون نزوع للهيمنة من دولة على الدول الأخرى.
وتلك القيمة اكتسبها طريق الحرير القديم من حقيقة أن القوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية للدول الواقعة عليه كانت متفاوتة بصورة هائلة، لكن ذلك التفاوت لم يولد نزعات للسيطرة والاستحواذ والهيمنة، على غير العادة تاريخيا، مما جعله نموذجا للتعاون السلمى الذى يتسم بالعدالة والتكافؤ والقائم على الاختيار الحر فى العلاقات بين الدول.
وكان الترحيب الرسمى المصرى بالمبادرة تعبيرا عن إدراك عميق من القيادة المصرية للقيمة الرمزية لطريق الحرير فى العلاقات الاقتصادية الدولية. كما أنه يشكل من ناحية أخرى إعلانا لكل دول العالم غربا وشرقا بأن مصر كدولة كبرى وقائدة فى إقليمها ترى أن نموذج العلاقات السياسية والاقتصادية الدولية القائم على السلام والعدالة والتكافؤ هو النموذج الذى تفضله فى العلاقات الدولية.
ويشهد التاريخ بأن ازدهار طريق الحرير للتعاون السلمي العادل بين الدول قد تزامن مع نزعة التوسع الأوروبية الإجرامية للسيطرة على البلدان الأخرى وتحطيم البنى الاجتماعية والسياسية فيها ونهب ثرواتها وإذلال شعوبها في العهد الاستعماري فيما سمي «سياسة القوارب المسلحة» كرمز لأساطيل الغزو اللصوصي الأوروبي لمختلف دول العالم آنذاك. ورغم أن نهاية ذلك العهد الاستعماري البغيض قد حدثت في الربع الثالث من القرن الماضي إلا جيوب صغيرة باقية، فإن الولايات المتحدة أعادت سياسة القوارب المسلحة في ثمانينيات القرن الماضي عندما احتلت جرينادا عندما لم تعجبها نتائج الانتخابات الديموقراطية فيها لتدلل مجددا على أن قضية الديموقراطية بالنسبة لها هي آلية للابتزاز للبلدان الأخرى خاصة وأنها تحالفت وما زالت تتحالف مع أكثر النظم فاشية وظلامية إذا توافق ذلك مع مصالحها. وعادت سياسة القوارب المسلحة أو الغزو الاستحواذي الدنىء مرة أخرى بشكل عملاق مع الغزو الإجرامي الأمريكي للعراق عام 2003 واحتلال ذلك البلد العربي الكبير وتحطيم دولته وبناء نظام الخراب القائم على المحاصصة الطائفية والعرقية والذي يأكل العراق ويمزقه ويدمر بنيته الاجتماعية. ومنذ عام 2011 شهدت البلدان العربية تدخلات من حلف الأطلنطي وعلى رأسه الولايات المتحدة لتدمر وحدة ليبيا وتحاول مع بعض حلفائها الإقليميين الذين أقاموا نظما على أسس طائفية وقبلية أن تدمر سورية التي أنقذتها قوة الجيش العربي السوري أو الجيش الأول (هكذا سمي وما زال منذ الوحدة بين مصر وسورية) والوقفة الروسية القوية والرائعة إلى جانبها والموقف الصيني المؤيد لوحدة الدولة السورية والرافض لأي تدخلات عسكرية فيها.
لقد حاولت الدول العربية القائمة على قاعدة المواطنة وليس هيمنة القبيلة أو الطائفة أن ترمي الماضي الاستعماري الأوروبي والأمريكي جانبا وأن تقيم علاقات قوية قائمة على تبادل المنافع الذي حاولت أن يكون عادلا ومتكافئا، لكن الممارسة العملية للعديد من الدول الغربية الكبرى ما زالت تنتمي لسياسة القوارب المسلحة المنطلقة من روح الهيمنة والاستحواذ والاستغلال. والدول العربية لديها نزوع عميق نحو بناء علاقات قائمة على السلام والعدالة. ومن هذا المنطلق فإنها تختار منهج ورمزية طريق الحرير وليس لصوصية القوارب المسلحة، وتأمل بالتأكيد فى أن تسلك الولايات المتحدة وأوروبا هذا الطريق ليصبح التعاون السلمي القائم على العدالة والتكافؤ هو القاعدة القوية للعلاقات السياسية والاقتصادية الدولية. وببساطة من يحاول أن يسير عكس هذا الاتجاه فإنه سيخسر كثيرا لأنه يحاول إعادة إنتاج نموذج رث والتاريخ لا يعيد نفسه وإذا حاول أحد إعادته فإن المأساة القديمة تتحول إلى ملهاة مزرية.
لقد تغير العالم وتراتب القوى الاقتصادية فيه وهو في سبيله للمزيد من التغيرات بشكل سريع. ومن لا يدرك هذه الحقائق أو يتعامى عنها سيخسر كثيرا وسيكون مجرد متفرج على حركة التاريخ لا أحد صناعه المتسقين مع حركته.
تقدم صاعق للدول النامية على حساب الغرب
من أهم مشاهد التغير في الحاسم في التراتب الدولي أن الناتج المحلي الإجمالي لمجموع الدول النامية المتوسطة والمنخفضة الدخل قد بلغ نحو4152 مليار دولار عام 1990 بما شكل نحو 19% من الناتج العالمي. كما بلغت قيمة صادراتها السلعية نحو 643 مليار دولار شكلت نحو 18,7% من الصادرات العالمية عام 1990. وكان عدد سكانها يبلغ نحو 4528 مليون نسمة بما يعادل 84,6% من عدد سكان العالم في ذلك العام.
لكن تلك الدول تمكنت خلال السنوات من عام 1990 إلى 2013 من زيادة حصتها من الناتج والصادرات العالمية بشكل ملهم. وارتفع الناتج القومي لمجموع تلك البلدان إلى 24253 مليار دولار بما يعادل 32% من إجمالي الناتج العالمي. وارتفعت قيمة صادراتها السلعية إلى 7988 مليار دولار تعادل 42٫9% من إجمالي الصادرات السلعية العالمية عام 2013.كما أنها تحقق فائضا تجاريا في تجارتها مع إجمالي العالم قيمته 1198 مليار دولار، بينما تحقق الدول الرأسمالية الصناعية المتقدمة عجزا قيمته 879 مليار دولار في العام نفسه (IMF, Direction of Trade Statistics Yearbook 2014, p. 2). كما بلغ عدد سكانها عام 2013 نحو 5819 مليون نسمة شكلت نحو 81٫7% من عدد سكان العام في ذلك العام. وللعلم فإن هناك العديد من الدول التي خرجت من تصنيف الدول النامية المنخفضة والمتوسطة الدخل والتحقت بالدول الغنية. ولو أبقينا تلك الدول ضمن إطارها السابق أي الدول المتوسطة الدخل لارتفعت حصة الدول المصنفة كدول منخفضة ومتوسطة الدخل عام 1990 إلى أكثر من 40% من الناتج العالمي عام 2013. وهذا يعني أن الدول النامية قد ضاعفت حصتها من الناتج العالمي خلال أقل من ربع قرن. وكانت الصين في قيادة هذا التحول الجوهري في الاقتصاد العالمي.
وتشير بيانات صندوق النقد الدولي إلى أن قيمة الصادرات الصينية قد ارتفعت من نحو 62٫1 مليار دولار تعادل 3% من الصادرات العالمية عام 1990 إلى نحو 2276 مليار دولار تعادل 12٫2% من الصادرات العالمية عام 2013 لتتصدر العالم متفوقة على الولايات المتحدة التي بلغت قيمة صادراتها 1492 مليار دولار تعادل نحو 8% من قيمة الصادرات العالمية عام 2013. كما تشير بيانات البنك الدولي إلى أن الناتج المحلي الإجمالي الصيني ارتفع من 354٫6 مليار دولار تعادل 1٫63% من الناتج العالمي عام 1990 إلى 8905 مليار دولار تعادل 11٫7% من الناتج العالمي في عام 2013. ولو قيس الناتج القومي بالدولار طبقا لتعادل القوى الشرائية بين الدولار واليوان فإنه يبلغ 16٫1 تريليون دولار بما يعادل 15٫8% من الناتج العالمي المحسوب بنفس الطريقة بما يعادل أكثر من 95% من الناتج القومي الأمريكي المحسوب بالطريقة ذاتها.
وبالمقابل فإن الدول الغنية وهي عبارة عن الدول الرأسمالية الصناعية المتقدمة والدول النفطية الغنية المرتبطة بها بشكل وثيق، قد بلغ الناتج المحلي لمجموع بلدانها في عام 1990 نحو 17667 مليار دولار شكلت نحو 81% من الناتج العالمي في ذلك العام. وبلغت قيمة صادراتها نحو 2800 مليار دولار شكلت نحو 81٫3% من إجمالي الصادرات السلعية العالمية في ذلك العام. وكان عدد سكان تلك البلدان نحو 822 مليون نسمة بما يعادل نحو 15٫4% من عدد سكان العام في ذلك العام.
وفي عام 2013 ارتفع عدد سكان الدول الغنية إلى 1306 مليون نسمة حيث التحقت بها العديد من البلدان النفطية والبلدان الناهضة. وبلغت حصتها من عدد سكان العالم نحو 18٫3% في عام 2013. وبلغ الناتج القومي الإجمالي لمجموع الدول الغنية نحو 52 تريليون دولار بما يعادل 68٫3% من الناتج العالمي في ذلك العام. كما بلغت حصتها من الصادرات العالمية نحو 55٫4% من إجمالي الصادرات العالمية وفقا لتقرير صندوق النقد الدولي الذي سبقت الإشارة إليه والذي تختلف بياناته عن تلك المنشورة في البنك الدولي لكنها هي الأدق في هذا الشأن. وهذا يعني أن تلك البلدان رغم زيادة عددها وعدد سكانها ونسبتهم من إجمالي سكان العالم قد تراجعت حصتها من الناتج العالمي بمقدار 12٫7 نقطة مئوية، وتراجعت حصتها من الصادرات العالمية بمقدار 25٫9 نقطة مئوية .
ولو أخذنا الدول الرأسمالية الصناعية المتقدمة وهي دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية واليابان فإن الحصة المجمعة لها في الناتج العالمي بلغت نحو 14٫3 تريليون دولار تعادل 65٫7% من الناتج العالمي عام 1990. وبلغت تلك الحصة 38٫8 تريليون دولار عام 2013 بما يعادل 50٫9% من الناتج العالمي في العام نفسه. أي أن حصة تلك الدول من الناتج العالمي فقدت 14,8 نقطة مئوية. ولأن تلك البلدان تشبعت استثماريا وصار معدل الادخار والاستثمار فيها عند مستويات منخفضة مقارنة بدول الدخل المنخفض والمتوسط، فإن المستقبل يحمل لها المزيد من التراجع السريع في حصتها من الاقتصاد العالمي. ويبلغ معدل الادخار في الدول الغنية نحو 17% من الناتج المحلي الإجمالي، بينما يبلغ معدل الاستثمار فيها نحو 18% من ذلك الناتج. أي أنها تضطر لاقتراض ما يعادل نحو 1% من ناتجها المحلي الإجمالي لتمويل فجوة الاستثمار، أو استقطاب استثمارات أجنبية مباشرة صافية لتمويل تلك الفجوة. أما معدل الادخار لمجمل الدول المنخفضة والمتوسطة الدخل فإنه يبلغ 30% من ناتجها المحلي الإجمالي، بينما يبلغ متوسط معدل الاستثمار فيها نحو 29% من ذلك الناتج. وبالتالي فإن المستقبل يحمل صعودا حتميا لحصة الدول النامية (المنخفضة والمتوسطة الدخل) من الناتج العالمي مقابل تراجع حصة الدول الغنية وبالأساس الدول الرأسمالية المتقدمة.
وهكذا فإن الدول النامية صارت قادرة على إنهاء المعادلة القديمة ولم تعد مجرد أرقام تتلاعب بها الدول الاستعمارية في السابق وشركاتها في الحاضر، إذ أصبح أمامها متسع رحب من فرص التعامل الأكثر عدالة الذي ينتمي لنموذج ورمزية طريق الحرير مع شركات من بلدان ناهضة وعلى رأسها الصين التي تملك كدولة وكشركات عامة وخاصة احتياطيات مالية تتجاوز 4 تريليونات دولار وصار بمقدورها أن تكون أكبر قوة مصدرة للاستثمارات في العالم، وهي تحتل بالفعل الموقع الثاني في الوقت الراهن.
وتجدر الإشارة إلى أن البلدان العربية قد شهدت تغيرات مهمة في علاقاتها الاقتصادية الدولية منذ عام 2011 وحتى الآن، وارتبطت تلك التغيرات باعتبارات سياسية وأخرى اقتصادية.