المؤكد أن قضاة مجلس الدولة ليسوا من جنس الملائكة، لكنهم رجال يستحقون التحية، ويفتخر المصريون بأحكامهم وثقافتهم القانونية الرفيعة، فهم ورثة «عبد الرزاق السنهوري» أعظم فقهاء القانون المصريين
في مصر قضاء إداري يرفع الرأس، وكلما طالعت حكما جديدا يصدر عن محاكم مجلس الدولة، تأكد لي ولغيري، أن في مصر قضاء يستحق الصفة الجليلة، لا يخشي في الحق لومة لائم، ولا يرهبه سيف المعز ولا يغريه الذهب.
القضاء الإداري ـ كما هو معروف ـ مختص دون غيره بالفصل في المنازعات بين الدولة والأفراد، وحماية الناس من تغول الدولة وقراراتها الإدارية، وهو ما يجعل محاكم مجلس الدولة الأكثرعرضة للضغوط إن وجدت، ومع ذلك تصدر الأحكام ناصعة قاطعة باترة، ولا ينسي أحد تلك الأحكام التاريخية التي صدرت عن مجلس الدولة، وفي عز طغيان ولصوصية حكم المخلوع مبارك، والقاضية ببطلان عقود بيع الأصول والشركات العامة، وفضح فسادها وإهدارها الفاجر للمال العام وثروة البلد، وقد امتنعت الدولة عن تنفيذ هذه الأحكام إلي اليوم، وتصرفت كعصابة خارجة عن القانون، ومحتقرة لأحكام القضاء، وهو ما يشكل جريمة متصلة كشفتها أحكام القضاء الإداري، ووسمتها بالبطلان وعدم المشروعية، وعلي النحو الذي سجلته حيثيات الأحكام الكاشفة لسرقات «خصخصة» تحولت إلي «مصمصة»، وقد تركت هذه الأحكام كذخيرة في حوزة الشعب، وسلاح بيده لاسترداد الأصول والشركات والمصانع المنهوبة، وتلك معركة يتوجب علي القوي الوطنية خوضها محمية بأحكام قضائية نهائية واجبة النفاذ، ويتعين حبس كل المسئولين المتلكئين والممتنعين عن التنفيذ.
ومن الاقتصاد إلي السياسة، كانت أحكام القضاء الإداري تواصل سيرتها المضيئة، ويكفي أن مراجعة أحكام مجلس الدولة عبر العقود الأخيرة، تثبت زيف وبطلان وتزوير كل الانتخابات التي جرت في عهد المخلوع مبارك، والذي تعامل مع القضاء الإداري كأنه حزب معارض، أدار له ظهره، وامتنع عن تنفيذ غالب أحكام المنازعات السياسية والانتخابية، وقد تعدل السلوك الإداري قليلا الآن، ولم تعد السلطات والهيئات تعاند في تنفيذ أحكام مجلس الدولة في غير مجال البيع الفاسد للأصول، وثبت أن القضاء الإداري هو الوحيد الذي يطبق أحكام الدستور الجديد، فقد تقبل طعنا بعدم دستورية قانون التظاهر المشوه، وأحاله إلي المحكمة الدستورية العليا، ثم طبق القضاء الإداري حكم الدستور في حظر فرض الحراسة علي النقابات، وانتصر لصحيح الدستور في رفض وإيقاف تنفيذ حكم صدر عن «الأمور المستعجلة» بفرض الحراسة علي نقابة الصيادلة، وأنهي عبثا كان يهدد بتعطيل عمل مجالس النقابات المنتخبة، وهو ما فعله القضاء الإداري أيضا في رفض دعوي وزير الري بإبطال الجمعية العمومية لانتخابات نقابة المهندسين، بل تقبل طعنا بعدم دستورية نص القانون علي إشراف وزير الري علي النقابة، وفي نفس الوقت الذي صدر فيه تصريح وزير العدل السابق عن «ابن الزبال» الذي لا يصلح للعمل قاضيا، ثم تنصيب وزير عدل لاحق يقسم الناس إلي سادة وعبيد، ويدافع عن توريث الوظائف القضائية، في هذه الأجواء الكئيبة، صدر حكم ناصع عن القضاء الإداري يرفض توريث الوظائف، فضلا عما يعرفه الكل من دأب القضاء الإداري علي حماية حقوق الناس بغير تمييز، ومن ذلك إبطاله لقرارات تحفظ علي أموال وأصول بدعوي محاربة جماعة الإخوان، وإبطاله لقرارات عديدة صدرت عن اللجنة العليا للانتخابات البرلمانية، وأمره القاضي بإعادة إدراج أسماء لمرشحين وقوائم أبعدتها لجنة الانتخابات، وترقبوا ـ من فضلكم ـ ما سيلي من أحكام مجلس الدولة في طعون الانتخابات، والتي تدق المسامير في نعش برلمان لا يعبر عن الإرادة الشعبية، وتعجل بحله من خلال طعون تحيلها إلي المحكمة الدستورية العليا.
وبالطبع، لا توجد ضمانة أفضل من القضاء المستقل في ظروف بلد كمصر الآن، وحيث لا توجد حياة سياسية نشيطة طليقة مؤثرة، فلا بد من الالتجاء إلي حماية القضاء الدستوري والإداري بالذات، ومع الوعي بوجود عوائق تراكمت واستحكمت، وطالبت بإزالتها مؤتمرات القضاة المتواترة منذ أواسط الثمانينيات، وإقرار قانون عادل للسلطة القضائية، يوقف تدخل السلطة التنفيذية ممثلة في وزارة العدل، ويعطي هيئات القضاة العليا موازناتها المالية المستقلة، ويجعل لها وحدها حقوق التصرف والتأديب والتفتيش القضائي، ويعالج الآثار الوخيمة لالتحاق رجال الشرطة بسلك القضاء، ويقر قواعد المساواة والكفاءة دون غيرها في التوظيف القضائي، وينهي الندب الكلي والجزئي إلي وظائف غير قضائية، تأخذ من حياد القاضي وتجرده، وهي المشكلة التي عاني منها القضاء الإداري بأكثر من غيره، وحدت من تفاقمها قرارات «المجلس الخاص» بتنظيم الانتداب، وقصره علي جهة واحدة لوقت محدد، وقد كان «الندب» الإداري ثغرة هائلة للعبث بأوضاع القضاة، وإغراقهم بأموال ومزايا تجور علي الحيدة المفترضة، وهو ما انتبه إليه الدستور الجديد المقر باستفتاء شعبي في يناير 2014، ونص في الماة (186) علي أنه «لايجوز ندبهم ـ أي القضاة ـ كليا أو جزئيا إلا في الجهات والأعمال التي يحددها القانون»، ثم يعود الدستور نفسه في المادة (239) ليضع الجرس في رقبة مجلس النواب، ويلزمه بإصدار قانون «بتنظيم قواعد ندب القضاة وأعضاء الجهات والهيئات القضائية، بما يضمن إلغاء الندب الكلي والجزئي لغير الجهات القضائية، أو اللجان ذات الاختصاص القضائي، أو لإدارة شئون العدالة، أو الإشراف علي الانتخابات «، ومعني النص ظاهر جدا، وهو إنهاء رذيلة انتداب القضاة للعمل كمستشارين في هيئات ومصالح ووزارات الدولة، وبما يغلق بابا خطيرا لإفساد ضمائر قضاة مجلس الدولة بالذات، فلا يعقل أن يكلف قاض بالنظر في منازعة مع جهة قد ينتدب إليها، وقد يتلقي منها مكافأة مالية تفوق أضعاف راتبه الأصلي، وبما يجعله رهينة لاحتمال «تعارض مصالح» حذر منه الدستور، وسعي إلي تلافيه بإلغاء الندب الكلي والجزئي، وحتي لا نفاجأ بقاض يعمل عند الحكومة، ويطلب منه محاكمتها في الوقت نفسه.
والمؤكد أن قضاة مجلس الدولة ليسوا من جنس الملائكة، لكنهم رجال يستحقون التحية، ويفتخر المصريون بأحكامهم وثقافتهم القانونية الرفيعة، فهم ورثة «عبد الرزاق السنهوري» أعظم فقهاء القانون المصريين.